صدر قديماً: سلامة موسى في "كتاب الثورات"

10 فبراير 2018
(من ثورة يوليو 1952 في مصر)
+ الخط -

ربما لم ينشر سلامة موسى (1887-1958) في حياته مقالاً أو كتاباً إلَّا وقد أُخِذَ بِخناقه، إذ كان يعمدُ كثيراً إلى مباغتة القارئ بما يفاجئه به من أفكارٍ تحوي من الجرأة والصدمة ما لا يشترط معه عمقُ التحليل ومنطق العلم. والأفكار الجريئة ليست سُبّة في ذاتها، كما أنها ليست ميزة إلّا إذا أتت بجديدٍ يسمو بالفرد والمجتمع ويعمّق صلة العقل بالعلم والواقع.

ومنذ عاد من رحلته المبكرة من أوروبا، وأصدر كتابه الأول "مقدمة السوبرمان" (1910)، وأفكار موسى تنمو وتتطوّر في اتجاهٍ واحدٍ؛ يراه خصومه أنه اتجاه التغريب الكامل والانسلاخ من هوية المجتمع والعمل على تغييرها. حيث اختار الكاتب المصري سبيل الترويج لحزمة من الأفكار النقدية حول اللغة والدين والمجتمع، جعلته محوراً لكثير من السجالات، وُصِف خلالها أحياناً بالعنصرية والمبالغة، وأحياناً بالخفّة والسطحية، حتى قال عنه العقاد: "إن العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء، لهذا فهو المنبتّ الذي لا علماً قطع ولا أدباً أبقى".

وعلى جانب آخر موالٍ له؛ استطاع موسى أن يكون رائداً مؤسِّساً لتيارٍ من الشباب اليساري المتحرّر، الذين تحرّشوا بمُخالفيهم باستخدام لغةٍ وُصِفَتْ بأنها متطاولة سفيهة بذيئة، ما دفع دريني خشبة إلى القول إن "الأستاذ سلامة" يفسح في دوريّته؛ "المجلة الجديدة"، لهؤلاء "السفهاء مجالاً واسعاً يُهرّجون فيه تهريجاً لا يتفق ومقام الأستاذ ومكانته الرفيعة في نهضة هذا البلد".

وإذا كانت معظم حياته ومعاركه قد عاشها في عصر الملكية، فقد كان طبيعياً أن يكون ساخطاً على القصر، مستبشراً بالانقلاب عليه، بالرغم من أنّ مبادئه القديمة كانت لا تميل لفكرة الثورة المفاجئة، ويفضّل التدرّج في التغيير. لكن جاءت "حركة الضباط الأحرار" بإقصاء الملكية في آخر عمره على مزاجه؛ فألف سنة 1954 "كتاب الثورات"، وأرّخ فيه لفكرة الثورة في ثقافات الشعوب، وسلّط قلمه الحادّ على الملك فاروق وأسلافه، واعتبرهم أصحاب مسؤولية مباشرة في إفساد المجتمع المصري.

بل كتب أن جدّهم الأكبر محمد علي كان أكبر كارثة على البلاد؛ قائلاً: "مرّت بمصر كوارث تعدّ بالمئات، ولكن الطامة الكبرى كانت استيلاء محمد علي عليها، وإحالتها إلى عزبة خاصة له؛ إذ جعلها كلها إقطاعاً يعمل فيه المصريون عبيداً، ويجمع هو الريع. وعاش ومات هذا الألباني، وهو لا يعرف كلمة من لغتنا العربية، وكان الشعب يبغضه ولكنه كان يعجز، وهو أعزل، عن مقاومة العصابات التي ألفها من الأتراك والألبان وسمّاها جيشاً".

وفي هذا الكتاب، يحاول موسى أن يقرّر قاعدة عامة في سلوك المجتمعات؛ وهي أن ثورات الشعوب تجري على نمط واحدٍ لا يتغيّر، إذ يبدأ الأمر باستبداد الطغمة الحاكمة وتعنّتها ضد الناس، وشيئاً فشيئاً تزداد الضغوط إلى أن يحدث الانفجار.

وقد يبدو للناظر أن الشعب كله ينهض بالثورة، ولكن عند التأمل والتدقيق نجد أن طبقة واحدةً هي التي تشعر بالاضطهاد والضغوط أكثر من غيرها، وهي التي تضطلع عندئذ بالدعوة إلى الثورة، وتوضّح فلسفتها، وتهيّئ محركاتها، بعد ذلك ينضمّ الشعب كله إليها، بعد أن يعرف عدالة موقفها وشرف غايتها، وواضح أنه إذا لم ينضمّ الشعب إليها فإنها لن تنجح.

والثورة -كما في رأيه- هي تاريخٌ مركزيٌّ تؤدّي فيها الساعة الواحدة ما كانت تؤديه الأيام والشهور في الأحوال العادية؛ لذلك نجد فيها السرعة الحاسمة في التغيير. وفي الثورات، يرتفع الشباب باهتماماتهم الشخصية الصغيرة إلى مستوى التاريخ؛ فيهتمّون بإصلاح الوطن واستقلاله وزيادة الإنتاج، ورفاهية الفلاحين والعمال، ورفع شأن المرأة، وزيادة حقوقها الإنسانية والدستورية، وتقوية الجيش... إلخ. وبعد الثورات، نجد الشباب يعملون ويجدّون؛ لأن الثورة قد ألهمتهم شرفاً جديداً، فلم يعودوا يجدون أمامهم تلك الطُّرز الخسيسة من الرجال الموالين للاستبداد وجواسيسه.

كما يناقش المؤلف رأياً متطرّفاً للمؤرخ الفرنسي، إرنست رينان، في الشعب المصري حين وصفه بالعقم الذهني، إذ قال رينان معلّلاً رأيه: "إنّ مصر لم يظهر فيها ثائرٌ واحد". وهنا فنَّد موسى ذلك القول، إن الأساس الذي تقوم عليه الثورات هو ظهور طبقة جديدة قد تغيّر مركزها الاقتصادي؛ فشرعت تكافح كي تغيّر أيضاً مركزها الاجتماعي والسياسي. وإن مصر مضت عليها آلاف السنين وطرق الإنتاج فيها لا تتغيّر، فلم يظهر فيها طبقات جديدة.

ومعنى هذا أن استقرار الطرق الإنتاجية أدى إلى استقرار النظم الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما آلَ في النهاية إلى بقاء الطبقات كما هي، فلم يكن هناك باعث على الثورة. موضّحاً أننا أحياناً نجد الثورة دون أن نتبيّن البواعث الاقتصادية التي بعثتها، ولكن جهلَنا لهذه البواعث لا يدلّ على غيابها، بل يدل على صعوبة الدرس للوقوف عليها لا أكثر.

أيضاً، تحدّث الكتاب عما نطلق عليه اليوم "الثورات المضادة"؛ فإذا كانت الثورة تقوم على مبادئ الحرية والعدالة والشرف فتحطم عروش الطغاة، فإنه سرعان ما يخرج طغاة آخرون يكيدون لهذه المبادئ. يقول: "ما زلنا بعد نحو خمسين ثورة في أقطار العالم، نجد الطغاة ودعاة الظلام يتحكّمون ويتبخترون، ويكيدون للشرف بما في قلوبهم من خسّة، ويبصقون على الإنسانية بما ينطوون عليه من حيوانية، ويحاربون الحب بما تحتقن به نفوسهم من بغض".

لكنه يستدرك، إن الحرية والشرف والحب والعدالة ليست من المبادئ الراكدة؛ إذ هي مبادئ مكافحة متجددة، تحتاج إلى الحراسة الدائمة والبعث المتوالي، حتى تعم البشر، وحتى تربي الإنسان على أن يكون إنسانيّاً.
________________________

مرحلة أخيرة

صدر "كتاب الثورات" في المرحلة الأخيرة من حياة سلامة موسى مع إصدارات أخرى مثل "هؤلاء علموني" (1953) و"الأدب للشعب" (1956) و"أحاديث إلى الشباب" (1957)، وهي أعمال بدا فيها أكثر اقتراباً من المجتمع مقارنة بأعماله الأولى التي اتسمت بالصدامية وجلد الذات الجماعية والانبهار بالغرب، مثل "نظرية التطوّر وأصل الإنسان" (1928) و"تربية سلامة موسى" (1947) حتى أن هناك من صنّفه مستشرقاً-ذاتياً.

المساهمون