صدر قديماً: "كيف ينهض العرب" لـ عمر فاخوري

25 مارس 2017
(عمر فاخوري في بورتريه لـ أنس عوض/العربي الجديد)
+ الخط -

لم يقيّض للكتاب المعنون "كيف ينهض العرب" للكاتب النهضوي عمر فاخوري (1895-1946) الصادر عام 1913، أن ينتشر وقت كتابته، فبعد طباعته اضّطر والد المؤلف الشاب إلى طمر نسخه المطبوعة في بئر مهجورة بسرعة، وأهال عليها التراب خشية أن تطاوله وعائلته نقمة الحاكم العسكري التركي آنذاك جمال باشا الملقب بالسفاح. لماذا؟ لأن الكتاب كان صريحاً بالدعوة إلى نهضة عربية في وقت كان يتردّد فيه سؤال عن كيفية النهضة، لا عن وجوبها الذي أصبح أمراً بديهياً.

سيظلّ الكتاب مطموراً طيلة 68 عاماً، أي حتى العام 1981 حين نُشر للمرة الأولى ضمن سلسلة الأعمال الكاملة لـ عمر فاخوري التي ضمّت إضافة إلى هذا الكتاب، كتاب "الباب المرصود" و"الفصول الأربعة" و"الحقيقة اللبنانية" و"آراء غربية في مسائل شرقية"، ومعظمها ذات طابع أدبي، وفيها بذور أفكار نظرية جمالية. ما يميّز الكتاب الذي غيّبه الاستبداد سنوات طويلة أنّه محاولة مبكرة لوضع نظرية في القومية العربية، عمادها آراء اقتبسها من كتب غربية لا يدّعي عصمتها كما يقول، وأفكار خاصة هي حسب تعبيره ممّا "جرته إليها المقارنة والمقابلة بين تلك وبين ما شاهده".

أما لماذا كُتِب هذا الكتاب الذي يدعوه الرسالة، فلأنّ "الأمّة العربية كان لها فيما مضى سلطان عظيم وحضارة ومنعة لم تُبق الأيام على شيء منها إلا بعض آثار ضخمة، وأسفار مهمة، ولا يذكّرنا بها إلا تاريخ مجيد ليس من يعرفه فينا إلا القليل، شر خلف لخير سلف، فهو شاحب هزيل، يعلوه الغبار، مع أنه فيّاض بالمآثر الغرّاء والفخر العميم".

أضف إلى ذلك ما رآه من ذلٍ يرزح تحته العرب منذ ستة قرون، وجهل أناخ عليهم بكلكله، وبلاد ازدردها الأغيار لقمة سائغة، حتى كاد يصاب باليأس من الشفاء وصلاح الحال، إلا أنه حين رجع إلى نفسه أدرك أن الشعب العربي ليس جثة هامدة، بل هو بالأحرى "مريض يوشك أن يدخل في طور النزع والاحتضار، ويمكن إنقاذه من براثن الموت وفتكاته، إذا كانت الطرق فعّالة والهمم عالية".

يقول " كيف ينهض العرب؟ سؤال يطرأ على بال كثيرين، وكنتُ ممن طرأ على بالهم.. وانحصرت الأجوبة في ما يأتي: نوال اللامركزية الإدارية.. وتعميم العلم في طبقات الأمّة كافة، والاطمئنان الخارجي، وهلّم جرّا..".

إلا أن هذه الأجوبة حسب رأيه "لا تفتح إلا سبلاً ضيقة، بعضها طويل وبعضها قصير، ويجب أن تؤدي جميعها إلى ما يلزم أن يكون غاية كمالية يشتد وراءها كتّاب العرب المصلحون". ويشرح ما يعنيه بالغاية الكمالية فيقول إنها تعني "المقصد الأسمى أو المثل الأعلى المشترك". وهكذا تحوّل عن السؤال الأول إلى سؤال "ماذا يجب أن تكون الغاية الكمالية المشتركة لمفكّري الأمة؟". وبعد تفكير طويل وجد نفسه أمام فقرة من كتاب غوستاف لوبون عنوانه "الثورة الفرنسية وروح الثورات"، تنير الظلمة المحيطة به، فلم يتمالك نفسه بعد أن قرأها، وارتمى "على هذا السفر الجليل".

تقول هذه الفقرة "لم تكن قوة الثورة في المبادئ القويمة التي أرادت نشرها، ولا في الأوضاع التي زعمت أنها تؤسّسها.. فإذا كانت الثورة قوية جداً، وإذا جعلت فرنسا تنوء تحت فظائع وخراب ومذابح حرب داخلية شعواء، وإذا وقفت في وجه أوروبا بأسرها ظافرة، فذلك لأنها أسّست، ليس عهداً جديداً، بل ديانة جديدة. والتاريخ يدلّنا بأنه لا يمكن مقاومة معتقد راسخ كهذا".

ويأخذ فاخوري عبارة "ديانة جديدة" فيترجمها معقباً ".. كذلك لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي ديانة لهم يغارون عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم، والمسيحيون الكاثوليك على إنجيل المسيح الرحيم، والبروتستانت على تعاليم لوثر الإصلاحية، وثوريو فرنسا على مبادئ "روسو" الديموقراطية...".

وستكون هذه هي فكرة الكتاب الرئيسية، أو فكرته المحورية التي يسير فيها باسم العرب من دون النظر إلى معتقدهم الديني، داعياً إياهم إلى اعتناق فكرة العروبة كمذهب سياسي، لأن المستقبل للمذاهب السياسية. يبدأ كتابه بتحليل أسباب عظمة العرب في الماضي، وسقوطهم في الحاضر، ويدرس ضرورة الغاية السامية التي يسميها "الغاية الكمالية" بالنسبة إلى الأفراد والجماعات، ثم يتناول مبحث الثورات الثلاث، العلمية والسياسية والفكرية، فالأولى تغيّر إدراك البشر للكون وتقلبه رأساً على عقب، والثانية لا يعوّل عليها كثيراً إلا إذا كانت مؤسسة على ثورة فكرية، فمن السهل كما يقول "دفع زمرة من الأشقياء، أو ثلّة من العساكر، إلى النهب والتخريب والقتل، ولكن يلزم للنهوض بشعب كامل أو القسم الأعظم منه على الأقل، عملٌ وجهد كبيران وقادة ماهرون..".

أما الثورة الفكرية فهي التي تحدث تدريجياً في روح الأمة، في العادات والمبادئ والأفكار، وهي الثورة التي يجب إحداثها في الأمة لتكوين وحدة لها في المشاعر والآراء والمعتقدات. وتنبع ضرورة الثورة الفكرية في رأيه من كون "الأمة العربية نائمة نوماً عميقاً منذ ستة قرون، فهي لذلك متخدّرة الأعصاب، وإن أخذت تفتح عينيها، لكنها تفتحهما لتغمضهما بعد قليل.. من الضروري لها إذاً ثورة فكرية بطيئة حذرة تخلع بوساطتها نير أفكارها العتيقة البالية.. ثورة تكون لها وجداناً قومياً متين الدعائم".

هذه الثورة التي يطالب بها شاملة كل مناحي حياة الأمة، لأن "النظام الذي تقوم عليه حياتها المنزلية والمدرسية والمدنية والسياسية فاسد؛ شريعتها ناقصة وتعليمها مشوه، ونظاماتها ممسوخة، وفي أدمغة أبنائها مبادئ سقيمة آسنة ينتهي تاريخها بعهد مضى من أمد بعيد، فقد ذهب أوانها، وحان وقت تغييرها".

ويختم حديث الثورة الفكرية التي ينبغي بثها في الأمة العربية بالقول "يجب أن تتناول كل ما يتعلق بحياتنا الأسرية والعلمية والاجتماعية، وأن ترمي إلى وضع غاية كمالية يغار كل فرد من أفرادها عليها كل الغيرة، ويتعصّب لها كل التعصّب، وهذه الغاية الكمالية (الهدف الأسمى) هي إعادة مجد العرب، وتجديد حضارة العرب، وخلق كيان حقيقي للعرب.. وأعظم عمل يقوم به المفكرون في الأمة العربية، أو بالأحرى أول واجب عليهم، هو أن يحدثوا فيها ثورة فكرية تدريجية تنتهي بتشكيل ديانة جديدة، لا قيام لأبناء الضاد إلا بها، هي الجنسية العربية (الهوية العربية) ليصيروا مستعدين لتحمّل قسوة ناموس الحياة العام: الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها".


المساهمون