يتمثّل المدخل الأساسي في إعادة قراءة التاريخ لدى الباحث والمؤرّخ العراقي عبد العزيز الدوري (1919 – 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010)، بتحليل العامل الاقتصادي في تكوين المجتمعات وظهر ذلك جلياً منذ كتابه "تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1948 عن "مطابع المعارف" في بغداد، وتبعتها طبعات أخرى.
عند النظر في عُدّة المؤلّف في البحث وأسلوبه، تتضح سعة اطلاعه على تلك الحقبة التاريخية بالعودة إلى أهم المراجع العربية والأجنبية، وفي اتباعه منهجاً علمياً صارماً في الاستدلال وتأويل أخبار التاريخ، ما يتيح له الوصول إلى خلاصات لم يسبقه غيره إليها.
كان "العصر العباسي الأول" (1945) الأطروحة التي قدّمها الدوري لنيل شهادة الدكتوراه من "جامعة لندن" عام 1942، ونذكر هنا أطروحات أخرى كان لها أثرها في مجال البحث التاريخي في المنطقة العربية، مثل أطروحة حنا بطاطو التي نال بها الدكتوراه من جامعة جورج تاون بعنوان "الفلاح والشيخ في النظام الإقطاعي في العراق" (1960)، وإلياس شوفاني في "حرب الردّة" (1968) التي حاز بها الدكتوراه من "جامعة برنستون".
عودة الدوري إلى القرن الرابع الهجري شاملة في استعراض التفاصيل والتعليق عليها، ونزيهة في بناء الاستنتاجات والأحكام، ففي الفصل الثاني "الزراعة" يتناول ملكية الأرض فيظهر الخلل الرئيسي في توزيعها حيث الأراضي السلطانية والإقطاع على أنواعه تشكّل السواد الأعظم، ثم يأتي إلى السياسات الزراعية فيعرض ميزاتها الإيجابية في تطوير أنظمة الري والتسميد ومكافحة الحشرات وإقراض المزارعين لأجل، لكنه يشير إلى ما يهدم ذلك كلّه حين كانت الدولة تُقطع القبائل أو الجند أو فئات معينة دون غيرها من أجل حماية نظامها.
في قراءته أكثر من 150 مصدراً أولياً و185 ثانوياً بالعربية، و85 مرجعاً بالإنكليزية وعشرات الدوريات والمجلات، يظهر الكم الكبير للمعلومات والأرقام حول طبيعة الاقتصاد وعجلة سيره في تلك المرحلة خلافاً للشائع لدى الكثير، وإمكانية درسها مجدداّ لفهم مجالات أخرى لم يتطرّق إليها الباحث.
يتحدّث صاحب "دراسات في العصور العباسية المتأخرة" (1945) عن إشكالية كبرى في تحديث المدن على حساب القرى، التي بقيت مهمّشة حتى يومنا هذا بالطبع، وعن ظهور فئة "الدهاقين" الذين عيّنتهم الخلافة في كلّ قرية لجباية الضريبة من الفلاحين، وهؤلاء أصبحوا بمنزلة الشيوخ والأشراف، بينما كانت الزراعة كعمل مهنةَ من لا يملك أرضاً أو عقاراً.
في التراتبية الاجتماعية الناشئة، هو إحداث إقطاعات مُنحت لأفرادٍ يقدّمون خدمات خاصة، بحسب الخطيب البغدادي، مثل الشعراء والمحدّثين والمغنين وكانوا ينالونها ملكية تامة يحقّ لهم توريثها، حيث يذكر التنوخي أن "حفيدة البحتري كانت تتمتع بإقطاع مُنح لجدّها في عهد الخليفة الراضي".
مع وضوح صورة الإقطاع وتوزيع الثروات في عراق القرن الرابع الهجري، يمكن الرجوع إلى الفصل الأول الذي يحمل عنوان "العوامل التاريخية التي تؤثر في تاريخ العراق"، لاستكشاف أمور عدّة منها وجوه الصراع الاجتماعي، حيث يلفت الكتاب إلى أن الصدام الدائم كان يحدث بين البدو والفلاحين أو الأكراد من سكّان الجبال؛ لا السهل والفلاحين، وليس على أساس انقسامه بين مكوّناته الإثنية والطائفية: عرب وفرس وديلم وأتراك وزنج وزط (الهنود) ونبط وآراميين وأكراد ويهود ومسيحيين.
وتبدو خاتمة الدوري لهذا الفصل لافتةً حين يقول: "كان تنوّع السكان يتناسب مع تقسيم العمل والإنتاج. وقد ساعد هذا على تنظيم المجتمع وجعله وحدة اقتصادية. ومن ناحية أخرى كان اختلاف المهن يقوّي الشعور بالنفرة الاجتماعية بين مختلف العناصر. وبالنتيجة أدى التقارب والتنافس في المجتمع العراقي إلى أن يصبح هذا المجتمع مليئاً بالحيوية والمفرقعات في آن واحد".
في الفصول اللاحقة؛ "الصناعة" و"التجارة" و"الجهبذة والصيرفة" يذهب صاحب كتاب "النظم الإسلامية" (1950) إلى التحليل بعقل بارد الأسبابَ التي قادت إلى أبرز ثورتين في ذلك العصر؛ ثورة الزنج، وحركة القرامطة، وكذلك في قراءة أثر رسائل "إخوان الصفا" على تلك الأحداث بصفتها أدبيات ثورية قدّمت تصوّراً متقدّماً حول تراتبية المجتمع وطبقاته وسلوكياتها.
منطلق حديث الثورات يبتدئ من المؤثرات الجديدة التي أثارت العمّال لدرجة لا سابق لها، وزلزلت الخلافة بصورة عنيفة، ويلخصها الكتاب في أمور ثلاثة: ظهور طبقة رأسمالية من الموظفين الكبار وقادة الجيش ورؤساء الكتاب (يعادلون وكلاء وزارات) يتسلّمون رواتب ضخمة وتجّار أثروا بطريقة مريبة، تجمّع العمّال أكثر من ذي قبل حيث تنظّمت مجموعات أهل الحرف كثيراً وهذا ساعد على تكوين الشعور بالمصلحة المشتركة، وظهور دعاية قوية تبث باسم العدل الديني وتؤكد على إصلاح الأحوال المادية.
لم تكن لتندلع التمرّدات لولا الانحطاط السياسي، وفق الكتاب، وارتفاع الأسعار دون حصول ارتفاع مماثل في الأجور، واحتكار المواد الغذائية من قبل التجار والأثرياء.
يتضح الحال أكثر في فصل "الضرائب" حيث كانت جبايتها بأعنف الطرق وساءت نتيجة اضطراب إدارة البلاد ولجوئها إلى فرض ضريبة جديدة للإنفاق على الجند والموالين لها، وربما ساهم ذلك في تضخّم تنظيم الشطّار "الفتوات واللصوص" والذي يفصّله الكتاب بالاستناد إلى مراجع عدّة.
لم يستطع الدوري تقديم صورة دقيقة في الفصل الأخير حول "مستوى المعيشة" إذ لا توضّحها الأرقام الواردة لدى قدماء المؤرخين، كما أنه لم يشأ أن يبتعد كثيراً عن منهجيته العلمية في الاستدلال، لكن ما هو متوفرّ حول التباين الحاد في الدخل وتدني الخدمات الاجتماعية والنفقات المتزايدة للمسؤولين وعدم استقرار الملكية كفيلة برسم مشهد عام لكل ما جرى في ذلك القرن.