صدر قديماً: "امرؤ القيس" لـ الطاهر أحمد مكي

19 نوفمبر 2018
(نقوش تنسب إلى مملكة كندة)
+ الخط -

في 1968، أصدر الناقد والمؤرخ الأدبي المصري الطاهر أحمد مكي (1924-2017)، وهو في بدايات مشواره المعرفي الطويل، كتابه "امرؤ القيس.. حياته وشعره". ربما اعتقد كثيرون وقتها، ونظراً لبراعة التأليف في مضمار السيرة الأدبية، أن مكّي سيسير على خطى أعلام من الجيل الذي سبقه مثل عباس محمود العقاد وطه حسين بتخصيص عدد من المؤلّفات لجنس السيرة حول شخصيات تراثية غير أن "امرؤ القيس" ظلّ عمله الوحيد في هذا المضمار قبل أن يتوغّل في مسالك شتى خصوصاً في التأريخ الأدبي للأندلس وأعمال نقدية كثيرة ذات طابع أكاديمي.

ولعلّ هذا التشعّب الذي ميّز مدوّنة مكي في مجملها نجد أثرها في كتاب "امرؤ القيس"، فلسنا معه حيال حكاية شاعر واستشهادات هنا وهناك بنصوصه، بل يضعنا المؤلف في مشهد واسع، بمعطيات جغرافية وسياسية واجتماعية. مشهد يظهر كخلفية سيكون من اليسير لاحقاً أن يتحرّك داخلها الشاعر العربي القديم.

في الحقيقة لن نلتقي بـ امرئ القيس في هذا الكتاب سوى في الفصل الرابع، بعد أن يأخذنا المؤلف بين شعاب الجزيرة العربية نتعرّف على أحوال العرب قبل الإسلام (القرن السادس ميلادي)، وعلى اللغة العربية وفروقاتها بين بدو وحضر، وبين شمال وجنوب، ثم نقترب أكثر من هدفنا حين يؤرّخ مكّي لقبيلة كندة وهي تتحرّك فوق خارطة الجزيرة على مدى قرون وتستقر لهم الزعامة حتى اتخذ كبارها لقب الملوك.

تلك مداخل شتّى وجدها مكّي ضرورية لفهم "ظاهرة" امرئ القيس، خصوصاً أنه عُرف في الأدب بـ"الملك الضليل"، وأن البوابة التي كثيراً ما ولج منها القراء لعالمه تلك الحكاية التي تروى عن مقتل والده حجر بن الحارث، وهي حادثة حاول مكّي أن يحقّقها بالعودة إلى أربع روايات تتناقلها كتب التراث العربي وأشعار تلك المرحلة.

ظهور شخصية امرئ القيس في العمل يصحبه ظهور أداة تأريخية جديدة، وهي نصوص الشاعر نفسه، وهنا يحسن مكّي وضع الإشارات التاريخية التي حفلت بها قصائد امرئ القيس، وأشهرها معلقاته، ضمن سياقات تاريخية متنوّعة نتعرّف فيها عن حكايات الشاعر، في ما يشبه يومياته، بل أيضاً مسالك التجارة وموازين القوى بين قبائل العرب، وبيهم وبين جيرانهم. لكن هذا الجزء البيوغرافي لا يأخذ في الكتاب أكثر من ثلاثة فصول لينتقل مكّي سريعاً إلى ما يمكن أن نسمّيه بالشخصية المتخيّلة التي بُنيت على قرون لامرئ القيس، كما يخصّص فصلاً لدراسة موقع ديوانه في منظومة الثقافة العربية القديمة، ولا ينسى صاحب "الأدب الأندلسي من منظور إسباني" أن يضيء موقع الشاعر في الثقافة الحديثة.

في العمل أيضاً نقع على شيء من التعاطف يبوح به المؤرّخ تجاه موضوعه، فمكّي يجهر بإعجابه بشاعر "نجح أن ينقل لنا بصدق تجربته كاملة"، أو إشارته إلى نصوصه وكأنها موسوعة طبيعية وتاريخية حيث يقول: "معلومات امرئ القيس واسعة، وكل ما يذكر من حيوان أو نبات، أو شراب أو ثياب، ينسبه إلى أحسن مكان شهر به".

أخيراً، يمكن أن نشير إلى اعتناء الطاهر أحمد مكّي بالبيبليوغرافيا على عكس معظم كتابات تلك الفترة، حيث يوثّق لمصادره بشكل علمي، مرتباً إياها بحسب المراحل التاريخية واللغات، وهنا ربما تجدر الإشارة إلى نهله من مصادر من ثقافات عدّة؛ إسبانية وفرنسية وإنكليزية، وهو انفتاح يحسب للمؤلف خصوصاً في عمل يتناول شخصية يمكن فيها للباحث أن يكتفي بمناهج البحث القديمة لتناولها، لكنّ مكّي كان يريد أكثر. 

المساهمون