تسود حالة من التوتر بين "هيئة تحرير الشام"، الفصيل الأقوى في الشمال السوري، وتنظيم "القاعدة" الأم، فضلاً عن فروعه ومشتقاته، في انعكاس كما يبدو للتحوّلات التي تدور في "تحرير الشام" التي تعدّ خليطاً من فصائل أكبرها "جبهة النصرة"، باتجاه "التكيّف" مع المعطيات والاستحقاقات الجديدة المرتبطة بالضغوط الخارجية عليها، خصوصاً التركية، من أجل تبديل نهجها والنأي بنفسها عن "التنظيمات الجهادية" المصنفة إرهابية، إذا ما أرادت تجنب التصفية، وفق التفاهمات التركية مع روسيا. وفي هذا الإطار، جاء إبعاد الشرعي المتشدد أبو اليقظان المصري، من داخل "الهيئة"، وكذلك التوترات مع تنظيم "حراس الدين" المحسوب على "القاعدة"، والتي تخللتها في الأيام الأخيرة اشتباكات واعتقالات بين الجانبين في ريفي إدلب وحلب.
ورغم التوصّل، أمس الجمعة، إلى اتفاق على التهدئة بين الجانبين عبر وسطاء محليين، نصّ على "تشكيل محكمة بخصوص الدماء التي أريقت خلال الاشتباكات، وتوقيف مطلقي النار من حراس الدين وإحالتهم إلى القضاء، وضرورة أن ينسق الحراس مع قطاع البادية في هيئة تحرير الشام إذا ما أرادوا القيام بعمل تنفيذي داخل البادية"، إلا أنّ التوتّر بين الجانبين، وبين "الهيئة" من جهة، ومجمل التنظيمات الجهادية المحسوبة على "القاعدة" في الشمال السوري من جهة أخرى، من المرجّح أن يتصاعد خلال الفترة المقبلة.
وكانت مجموعة من فصيل "حراس الدين" قد أطلقت، أول من أمس الخميس، النار على سيارة تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" في منطقة تل حدية بريف حلب الجنوبي، بعد مشادة كلامية بين الطرفين، الأمر الذي أدى إلى إصابة ثلاثة عناصر من "تحرير الشام". وقالت مصادر محلية إنّ الخلاف جاء نتيجة طلب عناصر "تحرير الشام" من عناصر في "حراس الدين" إزالة الحاجز الذي نصبوه على أطراف قرية تل حدية، لكن الأخيرين رفضوا ذلك، ما أدى إلى وقوع الاشتباكات.
كما جرى مطلع الشهر الحالي تبادل لإطلاق النار بين مجموعة تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" وأخرى تابعة لتنظيم "حراس الدين" في قرية المغارة بجبل الزاوية في القطاع الجنوبي من ريف إدلب، الأمر الذي تسبب بسقوط جرحى من الطرفين. وفي إطار هذا التوتر، احتجزت "تحرير الشام" قيادياً من "الحراس" قرب مدينة كفرزيتا، شمال حماة.
وكانت "هيئة تحرير الشام" قد فرضت سيطرتها العسكرية والإدارية على مناطق واسعة في محافظات إدلب وغرب حلب وشمال حماة، بعد معارك مع فصائل المعارضة خلّفت عشرات القتلى والجرحى العسكريين والمدنيين، وانتهت بانهيار "الجبهة الوطنية للتحرير"، التشكيل الأبرز الذي كان يفترض أنه يوازي بثقله "تحرير الشام".
ويرى مراقبون أنّ التنظيمات الجهادية في الشمال السوري، وفي مقدمتها تلك المرتبطة بـ"القاعدة"، ربما بدأت تستشعر أنها ستكون الهدف التالي لـ"الهيئة" بعد فصائل المعارضة، في إطار سعي الأخيرة لتقديم أوراق اعتمادها لدى المجتمع الدولي، ولدى الأتراك على وجه الخصوص، بأنها القوة الوحيدة المؤهلة للتحكّم بمجريات الأمور في إدلب ومحيطها، ويجب التفاهم معها حول مستقبل هذه المنطقة، وعدم وضعها على قوائم الاستهداف.
وفي هذا الإطار، قال الداعية والكاتب السوري المعارض حسن الدغيم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "التنظيمات الجهادية تغيّر كثيراً في تركيبتها ومواقفها تبعاً للمصالح السياسية، وهذا ما رأيناه في سلوك جبهة النصرة التي كانت جزءاً من دولة العراق الإسلامية، ثم جزءاً من القاعدة (التنظيم العالمي)، قبل أن تنفك عنها وتؤسس جبهة النصرة، ثمّ فتح الشام وصولاً إلى تحرير الشام، وهي اليوم تفكّر في تشكيل مجلس عسكري، أو الانضمام إلى الجيش الوطني، وكل ذلك استجابة للتحولات الضاغطة، وفي إطار التحولات التي تسلكها للحفاظ على وجودها ومصالحها".
ورأى الدغيم أنّ "هيئة تحرير الشام" "لا يمكنها بتركيبتها الحالية، أن تقول إنها هي التي تمثّل الجيش الوطني، وعليها أولاً اتخاذ مجموعة من الخطوات، مثل إبعاد المصنفين على قوائم الإرهاب، ونقل السلطة في الهيئة إلى قيادة معتدلة، متوافقة مع نهج الجيش الحرّ والثورة السورية، فضلاً عن القطيعة تماماً مع أي تنظيمات خارجية مثل القاعدة وغيرها". واستبعد الدغيم أن تسير الأمور بهذا الاتجاه بالنسبة لـ"الهيئة" ككتلة عامة، وإن كان من الممكن أن تشهد الأخيرة بعض الانشقاقات من جانب بعض وحداتها وقادتها، خصوصاً إذا زادت الضغوط على "الهيئة".
ورجح الدغيم أن تبادر "تحرير الشام" إلى قتال تنظيم "حراس الدين" بسبب الخلاف بينهما حول النظرة إلى الوضع الإقليمي والدولي، و"نظراً إلى أنّ هذه التنظيمات سريعة التشظي في ما بينها"، متوقعاً أن "يصبح المشهد أكثر قتامة". واستبعد أن تبادر "الهيئة" إلى تفكيك نفسها "لصالح المشروع الوطني وحماية المدنيين في الشمال، لأن مستوى العقلانية والنضج في الهيئة لم يبلغ هذا المستوى"، بحسب الدغيم، الذي لفت إلى أنّ "أبو محمد الجولاني، زعيم النصرة، يعمل على طريقة حزب الله في لبنان، من خلال السيطرة على المجتمع المحلي، وإظهار نفسه بوجه مدني، كما يفعل حزب الله، بغية محاولة تسويق نفسه في الوسط الإقليمي كقوة أمر واقع".
وتشكّل فصيل "حراس الدين" في نهاية شهر فبراير/ شباط 2018، منشقاً عن "جبهة فتح الشام" (تحرير الشام حالياً، وجبهة النصرة سابقاً)، وهو يتبع الآن لتنظم "قاعدة الجهاد" (تنظيم القاعدة)، وينشط في ريف حماة الغربي واللاذقية الشمالي وريف إدلب الجنوبي، بقيادة أبو همام الشامي.
وبدأ التوتر بين "تحرير الشام" و"حراس الدين" بعد الاجتماع الذي جمعهما قبل أسبوع، والذي رفض فيه الأخير طروحات قدمتها الأولى لمستقبل المرحلة المقبلة في الشمال، وتتمثل بتشكيل جسم عسكري واحد في إدلب تحلّ "تحرير الشام" نفسها فيه، إلى جانب تشكيل حكومة مدنية بعد إجراء تعديلات على الجسم الحالي لحكومة الإنقاذ المقربة من "الهيئة".
وبحسب هذا الطرح، الذي كشف عنه قائد "حراس الدين"، أبو همام الشامي، و"الشرعي" العام السابق لـ"جبهة النصرة"، ونائب قائد "الحراس" الحالي، الأردني سامي العريدي، فإنّ المجلس العسكري سيكون بقيادة ضابط من الضباط المنشقين عن النظام السوري والملتحقين بـ"الجيش الحر" أو "فيلق الشام"، على أن يملك المجلس قرار السلم والحرب في الشمال السوري. وبالتوازي مع ذلك، تفتح "تحرير الشام" الطرق الدولية مع النظام السوري.
وإثر ذلك، طالب كل من الشامي والعريدي بتسليم السلاح المتنازع عليه والموجود لدى "تحرير الشام". كما أصدر "جيش الساحل"، وهو أحد تشكيلات "حراس الدين"، بياناً طالب فيه "تحرير الشام" بسلاحه وبـ"الغنائم التي أخذتها في أثناء المعارك والعمليات العسكرية الأخيرة". ورداً على هذا الإعلان، أصدر ثلاثة قادة في "تحرير الشام"، هم أبو قتادة الألباني، وأبو عبيدة الشامي، وأبو عبيدة المصري، بياناً نفوا فيه هذه الطروحات، بينما دعا الشرعي البارز في "تحرير الشام"، عضو مجلس الشورى عبد الرحيم عطون، أصحاب الحقوق الشخصية للتقاضي في محاكم وزارة العدل التابعة لـ"حكومة الإنقاذ" التابعة لـ"النصرة"، ودافع عن مقترح الإدارتين العسكرية والمدنية، مؤكداً مواصلة العمل عليه من أجل إنجاحه. وختم عطون رده على "حراس الدين" بتهديد صريح، قائلاً: "ليعلم الجميع أن سلاح الهيئة خط أحمر، ولا نقبل المساس به من أي أحد، كائناً من كان، ومن يقترب من سلاحنا تحت أي حجة وتأويل سيعامل كصائل على مال الجهاد".
وفي رده على عطون، قال العريدي إنّ بإمكان "الحراس" الردّ بسهولة على التهديدات، واصفاً "تحرير الشام" بـ"مشروع داعش جديد، وعطون هو النسخة الثانية من أبو محمد العدناني"، الناطق السابق باسم "داعش".
وكان "حراس الدين" قد رفض صراحة الاتفاق الروسي - التركي حول محافظة إدلب، والذي ينصّ على إنشاء منطقة عازلة بين مناطق النظام السوري والمعارضة، وتعهّد بمواصلة القتال ضدّ النظام، وشكّل لهذا الغرض غرفة "وحرض المؤمنين"، التي كثيراً ما تبادر إلى شنّ عمليات ضد قوات النظام. ويرى مراقبون أنّ قائد "تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، لا يملك القرار الكامل لاتخاذ خطوات كبيرة، مثل حلّ "تحرير الشام"، مع وجود قادة مهاجرين يرفضون بشكل قاطع هذه الخطوة، لكنه يتبع استراتيجية تقوم على محاولة استرضاء جميع الأطراف قدر الإمكان، واللجوء إلى القوة للقضاء على الخصوم وتفتيت قواهم، حينما تدعو الحاجة، في إطار مشروعه الجديد.