صحة المصريين النفسية... تدهور الأحوال الاقتصادية يفاقم المشكلات الاجتماعية وإدمان المخدرات
فشلت محاولة انتحار الثلاثيني المصري كرم عبدالفتاح بعد معاناته من ضغوط اقتصادية ونفسية متزايدة دفعته إلى محاولة قتل نفسه بالسم، إذ لم يعد راتبه البالغ 1500 جنيه مصري (84 دولارا) يكفيه، وصار لا يأكل هو وزوجته وابنه غير وجبة واحدة مكونة من البقوليات (الفول والفلافل)، حتى يتمكن من دفع إيجار شقته، كما يقول من على سريره في مستشفى الدمرداش شرقي القاهرة.
تدور أحاديث يومية بين كرم ومحمد علي الطبيب الذي أنقذه بالمستشفى، في محاولة منه لترميم قواه النفسية، إذ صادف منذ عمل في المستشفى قبل عامين عشرات الحالات الشبيهة والتي تدخل ضمن متوسط 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويًّا، بحسب تقرير صادر عن مركز السموم التابع لجامعة القاهرة منتصف عام 2016، ويدخل العدد السابق ضمن إجمالي 4200 منتحر أغلبهم تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، وفق دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية عام 2016 والذي احتلت فيه مصر المرتبة 96 على مستوى العالم من حيث عدد الأفراد المقبلين على الانتحار، وكشفت الدراسة أن 78% ممن يقدمون على الانتحار في العالم العربي، تنحصر أعمارهم ما بين 17 و40 عاما، وأن 69% منهم يعانون ضغوطا اقتصادية قاسية، وهو ما يطابق إحصاء مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية بأن مصر شهدت 4 آلاف حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، خلال الفترة من مارس/آذار 2016، وحتى يونيو/حزيران 2017.
اقــرأ أيضاً
فقراء يزدادون فقرا
قبل قرار تعويم الجنيه (تحرير سعر صرف العملة) في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، لم يكن راتب الشاب العشريني خالد إبراهيم، يكفي عائلته المكونة من زوجة وثلاث بنات، ولم يتغير راتبه بعد القرار إذ لا يزال 1800 جنيه (101 دولار) أي أن كلا منهم نصيبه 360 جنيها (20 دولاراً) شهريا، وبالتالي يقبعون تحت خط الفقر في مصر والذي يبلغ 482 جنيها شهريا، ليصبح من بين 27.8% من المصريين، بحسب تقرير بحث الدخل والإنفاق (دراسة إحصائية يجريها جهاز الإحصاء على عينة من الأسر المصرية بمختلف المحافظات كل عامين)، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في فبراير/شباط من عام 2017.
لا يزال خالد وأسرته تحت خط الفقر، لكن مع أوضاع اقتصادية ونفسية أسوأ بسبب الغلاء الدوري كما يقول، إذ تحتاج الأسرة إلى 3987 جنيها (223 دولارا) حتى تصل إلى خط الفقر المصري البالغ 5787.9 جنيها (324 دولارا).
وتتوقع الدكتورة هبة الليثي، أستاذة الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والمشاركة في إعداد بحث الدخل والإنفاق، ارتفاع خط الفقر إلى 800 جنيه شهريا (44 دولارا) للفرد الواحد، بسبب معدلات التضخم التي وصلت إلى ما يزيد عن 30% بعد تعويم الجنيه.
العمل الإضافي غير كاف
اختار الثلاثيني أحمد عادل أن يعمل في إحدى شركات الاتصالات بالقاهرة، التي تبعد عن مدينته طنطا حوالي 90 كيلومتراً، ما يجبره على الاستيقاظ في الرابعة فجرا كل يوم، حتى يسافر إلى عمله، وما أن ينهيه حتى يلتحق بعمل آخر في أحد المطاعم، ولا يحصل أحمد سوى علي ساعتين من النوم.
ويحاول عادل التوفيق بين العملين حتى يكمل مصاريف الزواج، معتمدا على دخل يبلغ أربعة آلاف جنيه (224 دولارا)، من الوظيفتين ، بإجمالي 16 ساعة عمل يوميا. ورغم ذلك فقد اضطر لتأجيل زواجه لأكثر من أربع سنوات حتى يوفر الاحتياجات الأساسية لتأسيس منزله الذي يتطلب أكثر من 100 ألف جنيه (5602 دولار).
لكن هذه الخطوات لم تحم أحمد من القلق والاكتئاب الذي يعانيه، إذ كلما جهز مبلغا ارتفعت الأسعار، وأصبح غير كاف.
أحمد ليس وحده، فبحسب نتائج المسح القومي للصحة النفسية في مصر خلال العام المنصرم والصادر في مارس/آذار الماضي بتمويل من منظمة الصحة العالمية، فإن نسبة انتشار الاضطرابات النفسية تصل إلى 25% من العينة المشاركة في البحث الذي شمل جميع محافظات مصر وتعد المشاكل النفسية الأكثر انتشارًا هي اضطرابات المزاج وأهمها "الاكتئاب" بنحو 43.7%، واضطرابات تعاطي المخدرات 30.1%.
الأمراض الجسدية والنفسية
تزور العشرينية نورا فتحي الطبيب النفسي منذ عامين، إذ أصبحت تميل الى الانعزال ولم تعد لديها القدرة على القيام بمعظم أعمال المنزل، وعلى الرغم من أنها لا تشتكي من أية علل جسدية، الا أنها أصبحت تتألم معظم الوقت، ويشخص الطبيب حالتها على أنها اكتئاب حاد.
تعتقد نورا أن أسباب مرضها ترجع لضغوط مادية، إذ كانت أسرتها من بين الطبقة المتوسطة، إلا أن زيادات الأسعار بشكل متكرر جعلتهم يعانون بشكل مستمر، وأصبح راتب الزوج لا يكفي احتياجات الأسرة التي تتكون من 3 أطفال.
"مع زيادة الأسعار أصبح مصروف الأسرة 5 آلاف جنيه في الشهر بينما لم يكن مرتب زوجي الذي يعمل مهندسا كيميائيًا يتجاوز الـ 4 آلاف جنيه، ما دفعه إلى أن يعمل لعدد أطول من الساعات، قد تصل أحيانا إلى 19 ساعة، بدلا من تسع ساعات، بالإضافة إلى عدم حصوله على إجازات، حتى يحصل على 2000 جنيه زيادة على راتبه، وهو ما جاء على حساب استقرارنا جميعا" تتابع نورا، قائلة "رغم نجاح الزوج في توفير المصروفات المطلوبة، إلا أن الأولاد أصبحوا في منتهى العصبية بسبب غياب والدهم، ولا يحصلون على علامات جيدة في المدرسة".
وبزيادة الضغوط المادية والنفسية تعاني نورا قائلة "نحن كأفراد أسرة واحدة نكاد لا نرى بعضنا، لا وقت للحياة الاجتماعية من أجل لقمة العيش"، وهو ما يعلق عليه الدكتور أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق قائلا إن الضغوط الاقتصادية تؤدي إلى أزمة اجتماعية، فكلما قل إنفاق الدولة، زاد حجم التقصير في ما تقدمه من خدمات. يوضح: قائلا "يزيد العجز في تقديم خدمات للمجتمع، مثل الأنشطة الرياضية للشباب، وتوفير فرص العمل، تقديم الخدمات الصحية. يترتب على كل هذا نتائج كارثية مثل زيادة الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والبطالة، والتي يترتب عليها بصورة كبيرة تعاطي المواد المخدرة".
البعض يواجه الديون بالإدمان
على الرغم من أن المهندس حاتم محمد يعمل في إحدى الشركات الكبيرة، ويتقاضى 6 آلاف جنيه (336 دولارا) راتبا شهريا، لكن هذا المبلغ الذي يجعله من بين قلة قليلة مرتفعة الراتب، أصبح بلا قيمة أمام الأسعار المرتفعة، خاصة أنه يجهز شقته للزواج، ولتفادي زيادة الأسعار، اقترض مبلغا من المال لينهى تجهيز الشقة، على أن يسدد هذا المبلغ بالتقسيط، إذ يدفع 5 آلاف جنيه كل الشهر، ما جعل راتبه لم يعد يكفى احتياجاته الأساسية، فبدأ عملا آخر يذهب إليه ليلا. وبسبب المشقة التى يعانيها من العمل بشكل متواصل، يستعين بأقراص منشطة، وحين أخبره صديق عن أخطار إدمان هذه الأقراص قال: "لا يهمني شيء سوى أن ينتهي هذا الكابوس".
ويعد حاتم واحدا من بين 7% من المسجل علاجهم من سوء استخدام عقاقير مخدرة من المصريين بحسب إحصائية أصدرتها الأمانة العامة للصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة المصرية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، بينما لم تسجل الإحصائية سوى نسبة 3% لمن يتعاطون مواد مخدرة، لكن الدكتور سامح حجاج مدير مستشفى العباسية للصحة النفسية، يرى أن هذه النسبة لا تعبر تماما عن الحقيقة، إذ يتخطى الواقع هذه الأرقام بكثير خاصة في السنين الأخيرة، قائلا: "أعداد من يحضرون لطلب العلاج أكثر من ذلك، بخلاف من لا يتلقون العلاج".
غياب الأمان
يلاحظ الدكتور أحمد عبدالله أن معظم المشكلات الاجتماعية التي تعرض عليه في السنوات الاخيرة لها أسباب اقتصادية، سواء كانت زواجا أو طلاقا، أو اكتئابا، واضطرابات نفسية مختلفة.
في رأي عبدالله، يمكن للخوف من المستقبل أن يصيب الإنسان بأزمات نفسية، نتيجة انسداد الأفق وفقدان الأمل في الغد، ونتيجة لعدم الأمان، قائلا "أزمة اقتصادية تعنى بالدرجة الأولى عدم الأمان الوظيفي، والشخص سيظل دائما في قلق إزاء ما يمكن أن يصيبه. وبالوضع الاقتصادي الذي تمر به مصر حاليا، لا أحد يعلم ما يمكن أن يصيبه غدا. لكي تكون صحيحا نفسيا يجب أن تكون مستقر اقتصاديا، حيث تشعر بعدها بالأمان الوظيفي الذي يؤمن لك مستقبلك".
ويضيف عبدالله: "بالنسبة للطبقات الكادحة التي كانت تعاني أصلا من عدم الأمان، فإن ازدياد الضغط عليها يزيد الأمر سوءا، فتكون النتيجة أنهم لا يحاربون الغلاء فقط، بل يحاربون ما يسببه في أعماق نفوسهم. لا ينبغي أن تتوقع الكثير من جائع، سيظل مهموما ومشغولا بحاضره الذي بالكاد يعيشه، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تدنّ في الحالة النفسية والأداء الاجتماعي بسبب تلك الضغوط المتزايدة في الفترة الأخيرة".
وتدفع تلك الضغوط النفسية والاقتصادية بسبب زيادة الأسعار من يعانون منها إلى اتخاذ قرارات تدمر أسرهم، مثل الموقف الذي شهدته الدكتورة مريم محمد الأخصائية النفسية بمستشفى العباسية والتي تقول: "من أكثر ما آلمني مريضة تعالج من الإكتئاب، كان السبب الرئيسي في طلاقها أسبابا اقتصادية، بالرغم من أنها تحب زوجها، لكنهما تطلقا بعد أن أعيتهما الحيل في الحصول على شقة إيجار مناسبة لقيمة مرتب زوجها"، وهو ما تكرر مع أمينة السيد عاملة النظافة بمستشفى العباسية، التي هجرها زوجها بعد زواج دام 17 سنة، بسبب عدم إمكاناته في مواصلة الإنفاق على الأسرة بعد الغلاء الأخير.
تدور أحاديث يومية بين كرم ومحمد علي الطبيب الذي أنقذه بالمستشفى، في محاولة منه لترميم قواه النفسية، إذ صادف منذ عمل في المستشفى قبل عامين عشرات الحالات الشبيهة والتي تدخل ضمن متوسط 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويًّا، بحسب تقرير صادر عن مركز السموم التابع لجامعة القاهرة منتصف عام 2016، ويدخل العدد السابق ضمن إجمالي 4200 منتحر أغلبهم تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، وفق دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية عام 2016 والذي احتلت فيه مصر المرتبة 96 على مستوى العالم من حيث عدد الأفراد المقبلين على الانتحار، وكشفت الدراسة أن 78% ممن يقدمون على الانتحار في العالم العربي، تنحصر أعمارهم ما بين 17 و40 عاما، وأن 69% منهم يعانون ضغوطا اقتصادية قاسية، وهو ما يطابق إحصاء مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية بأن مصر شهدت 4 آلاف حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، خلال الفترة من مارس/آذار 2016، وحتى يونيو/حزيران 2017.
فقراء يزدادون فقرا
قبل قرار تعويم الجنيه (تحرير سعر صرف العملة) في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، لم يكن راتب الشاب العشريني خالد إبراهيم، يكفي عائلته المكونة من زوجة وثلاث بنات، ولم يتغير راتبه بعد القرار إذ لا يزال 1800 جنيه (101 دولار) أي أن كلا منهم نصيبه 360 جنيها (20 دولاراً) شهريا، وبالتالي يقبعون تحت خط الفقر في مصر والذي يبلغ 482 جنيها شهريا، ليصبح من بين 27.8% من المصريين، بحسب تقرير بحث الدخل والإنفاق (دراسة إحصائية يجريها جهاز الإحصاء على عينة من الأسر المصرية بمختلف المحافظات كل عامين)، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في فبراير/شباط من عام 2017.
لا يزال خالد وأسرته تحت خط الفقر، لكن مع أوضاع اقتصادية ونفسية أسوأ بسبب الغلاء الدوري كما يقول، إذ تحتاج الأسرة إلى 3987 جنيها (223 دولارا) حتى تصل إلى خط الفقر المصري البالغ 5787.9 جنيها (324 دولارا).
وتتوقع الدكتورة هبة الليثي، أستاذة الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والمشاركة في إعداد بحث الدخل والإنفاق، ارتفاع خط الفقر إلى 800 جنيه شهريا (44 دولارا) للفرد الواحد، بسبب معدلات التضخم التي وصلت إلى ما يزيد عن 30% بعد تعويم الجنيه.
العمل الإضافي غير كاف
اختار الثلاثيني أحمد عادل أن يعمل في إحدى شركات الاتصالات بالقاهرة، التي تبعد عن مدينته طنطا حوالي 90 كيلومتراً، ما يجبره على الاستيقاظ في الرابعة فجرا كل يوم، حتى يسافر إلى عمله، وما أن ينهيه حتى يلتحق بعمل آخر في أحد المطاعم، ولا يحصل أحمد سوى علي ساعتين من النوم.
ويحاول عادل التوفيق بين العملين حتى يكمل مصاريف الزواج، معتمدا على دخل يبلغ أربعة آلاف جنيه (224 دولارا)، من الوظيفتين ، بإجمالي 16 ساعة عمل يوميا. ورغم ذلك فقد اضطر لتأجيل زواجه لأكثر من أربع سنوات حتى يوفر الاحتياجات الأساسية لتأسيس منزله الذي يتطلب أكثر من 100 ألف جنيه (5602 دولار).
لكن هذه الخطوات لم تحم أحمد من القلق والاكتئاب الذي يعانيه، إذ كلما جهز مبلغا ارتفعت الأسعار، وأصبح غير كاف.
أحمد ليس وحده، فبحسب نتائج المسح القومي للصحة النفسية في مصر خلال العام المنصرم والصادر في مارس/آذار الماضي بتمويل من منظمة الصحة العالمية، فإن نسبة انتشار الاضطرابات النفسية تصل إلى 25% من العينة المشاركة في البحث الذي شمل جميع محافظات مصر وتعد المشاكل النفسية الأكثر انتشارًا هي اضطرابات المزاج وأهمها "الاكتئاب" بنحو 43.7%، واضطرابات تعاطي المخدرات 30.1%.
الأمراض الجسدية والنفسية
تزور العشرينية نورا فتحي الطبيب النفسي منذ عامين، إذ أصبحت تميل الى الانعزال ولم تعد لديها القدرة على القيام بمعظم أعمال المنزل، وعلى الرغم من أنها لا تشتكي من أية علل جسدية، الا أنها أصبحت تتألم معظم الوقت، ويشخص الطبيب حالتها على أنها اكتئاب حاد.
تعتقد نورا أن أسباب مرضها ترجع لضغوط مادية، إذ كانت أسرتها من بين الطبقة المتوسطة، إلا أن زيادات الأسعار بشكل متكرر جعلتهم يعانون بشكل مستمر، وأصبح راتب الزوج لا يكفي احتياجات الأسرة التي تتكون من 3 أطفال.
"مع زيادة الأسعار أصبح مصروف الأسرة 5 آلاف جنيه في الشهر بينما لم يكن مرتب زوجي الذي يعمل مهندسا كيميائيًا يتجاوز الـ 4 آلاف جنيه، ما دفعه إلى أن يعمل لعدد أطول من الساعات، قد تصل أحيانا إلى 19 ساعة، بدلا من تسع ساعات، بالإضافة إلى عدم حصوله على إجازات، حتى يحصل على 2000 جنيه زيادة على راتبه، وهو ما جاء على حساب استقرارنا جميعا" تتابع نورا، قائلة "رغم نجاح الزوج في توفير المصروفات المطلوبة، إلا أن الأولاد أصبحوا في منتهى العصبية بسبب غياب والدهم، ولا يحصلون على علامات جيدة في المدرسة".
وبزيادة الضغوط المادية والنفسية تعاني نورا قائلة "نحن كأفراد أسرة واحدة نكاد لا نرى بعضنا، لا وقت للحياة الاجتماعية من أجل لقمة العيش"، وهو ما يعلق عليه الدكتور أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق قائلا إن الضغوط الاقتصادية تؤدي إلى أزمة اجتماعية، فكلما قل إنفاق الدولة، زاد حجم التقصير في ما تقدمه من خدمات. يوضح: قائلا "يزيد العجز في تقديم خدمات للمجتمع، مثل الأنشطة الرياضية للشباب، وتوفير فرص العمل، تقديم الخدمات الصحية. يترتب على كل هذا نتائج كارثية مثل زيادة الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والبطالة، والتي يترتب عليها بصورة كبيرة تعاطي المواد المخدرة".
البعض يواجه الديون بالإدمان
على الرغم من أن المهندس حاتم محمد يعمل في إحدى الشركات الكبيرة، ويتقاضى 6 آلاف جنيه (336 دولارا) راتبا شهريا، لكن هذا المبلغ الذي يجعله من بين قلة قليلة مرتفعة الراتب، أصبح بلا قيمة أمام الأسعار المرتفعة، خاصة أنه يجهز شقته للزواج، ولتفادي زيادة الأسعار، اقترض مبلغا من المال لينهى تجهيز الشقة، على أن يسدد هذا المبلغ بالتقسيط، إذ يدفع 5 آلاف جنيه كل الشهر، ما جعل راتبه لم يعد يكفى احتياجاته الأساسية، فبدأ عملا آخر يذهب إليه ليلا. وبسبب المشقة التى يعانيها من العمل بشكل متواصل، يستعين بأقراص منشطة، وحين أخبره صديق عن أخطار إدمان هذه الأقراص قال: "لا يهمني شيء سوى أن ينتهي هذا الكابوس".
ويعد حاتم واحدا من بين 7% من المسجل علاجهم من سوء استخدام عقاقير مخدرة من المصريين بحسب إحصائية أصدرتها الأمانة العامة للصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة المصرية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، بينما لم تسجل الإحصائية سوى نسبة 3% لمن يتعاطون مواد مخدرة، لكن الدكتور سامح حجاج مدير مستشفى العباسية للصحة النفسية، يرى أن هذه النسبة لا تعبر تماما عن الحقيقة، إذ يتخطى الواقع هذه الأرقام بكثير خاصة في السنين الأخيرة، قائلا: "أعداد من يحضرون لطلب العلاج أكثر من ذلك، بخلاف من لا يتلقون العلاج".
غياب الأمان
يلاحظ الدكتور أحمد عبدالله أن معظم المشكلات الاجتماعية التي تعرض عليه في السنوات الاخيرة لها أسباب اقتصادية، سواء كانت زواجا أو طلاقا، أو اكتئابا، واضطرابات نفسية مختلفة.
في رأي عبدالله، يمكن للخوف من المستقبل أن يصيب الإنسان بأزمات نفسية، نتيجة انسداد الأفق وفقدان الأمل في الغد، ونتيجة لعدم الأمان، قائلا "أزمة اقتصادية تعنى بالدرجة الأولى عدم الأمان الوظيفي، والشخص سيظل دائما في قلق إزاء ما يمكن أن يصيبه. وبالوضع الاقتصادي الذي تمر به مصر حاليا، لا أحد يعلم ما يمكن أن يصيبه غدا. لكي تكون صحيحا نفسيا يجب أن تكون مستقر اقتصاديا، حيث تشعر بعدها بالأمان الوظيفي الذي يؤمن لك مستقبلك".
ويضيف عبدالله: "بالنسبة للطبقات الكادحة التي كانت تعاني أصلا من عدم الأمان، فإن ازدياد الضغط عليها يزيد الأمر سوءا، فتكون النتيجة أنهم لا يحاربون الغلاء فقط، بل يحاربون ما يسببه في أعماق نفوسهم. لا ينبغي أن تتوقع الكثير من جائع، سيظل مهموما ومشغولا بحاضره الذي بالكاد يعيشه، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تدنّ في الحالة النفسية والأداء الاجتماعي بسبب تلك الضغوط المتزايدة في الفترة الأخيرة".
وتدفع تلك الضغوط النفسية والاقتصادية بسبب زيادة الأسعار من يعانون منها إلى اتخاذ قرارات تدمر أسرهم، مثل الموقف الذي شهدته الدكتورة مريم محمد الأخصائية النفسية بمستشفى العباسية والتي تقول: "من أكثر ما آلمني مريضة تعالج من الإكتئاب، كان السبب الرئيسي في طلاقها أسبابا اقتصادية، بالرغم من أنها تحب زوجها، لكنهما تطلقا بعد أن أعيتهما الحيل في الحصول على شقة إيجار مناسبة لقيمة مرتب زوجها"، وهو ما تكرر مع أمينة السيد عاملة النظافة بمستشفى العباسية، التي هجرها زوجها بعد زواج دام 17 سنة، بسبب عدم إمكاناته في مواصلة الإنفاق على الأسرة بعد الغلاء الأخير.