لم تكن إدلب في الشمال السوري في حاجة إلى أزمة كورونا حتى يتكشّف أكثر ضعفها في مجال الصحة. وتتعدّد أسباب ذلك الضعف في حين يحاول معنيون التوصل لحلول ممكنة للخروج من الأزمة.
على الرغم من عدم تسجيل إصابات بفيروس كورونا الجديد في إدلب أو "منطقة خفض التصعيد الرابعة" التي تضم كامل محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حماه الشمالي والغربي وحلب الغربي والجنوبي واللاذقية الشرقي، إلا أنّ الاستعداد لمواجهة الفيروس من قبل القطاع الطبي في هذه المنطقة أظهر ضعفاً وتدنياً في إمكانيات هذا القطاع، لجهة النقص في الأجهزة والأسرّة وضعف موارد المستشفيات والنقاط الطبية لمواجهة كلّ الأمراض والحالات الصحية وليس كورونا فحسب.
وكان القطاع الطبي في إدلب من أكثر القطاعات التي تلقّت دعماً دولياً واهتماماً من قبل منظمات عالمية منذ بداية الثورة، ثمّ نُظّم من ضمن الإدارات السياسية والمحلية المتعاقبة، بدءاً من المجالس المحلية ووصولاً إلى الوزارات المتعاقبة للحكومة المؤقتة، بالتزامن مع استمرار دعم المنظمات، لكنّ ذلك لم ينفع بتأسيس أرضية صلبة لقطاع الصحة الذي يبدو اليوم فاقداً لمقوّمات كثيرة، على الرغم من أنّه من بين أوّل المجالات التي تبنّتها. ووراء ذلك أسباب، لا بدّ من البحث عنها ومناقشتها مع القائمين على القطاع الصحي في إدلب، للخروج بنتائج وحلول ربّما تؤدي إلى تحسين الواقع الحالي.
يقول الطبيب عبد الحكيم رمضان، وهو منسّق الصحة العامة في مديرية صحة إدلب التي تُشرف بشكل رئيسي على مستشفيات ونقاط طبية كثيرة في إدلب، إنّ من "أسباب تراجع قطاع الصحة في إدلب تقلّص الدعم العيني والمادي بالدرجة الأولى. أمّا بالدرجة الثانية، فقد أدى استهداف المنشآت إلى إغلاق بعضها أو اضطرار أخرى إلى تعليق العمل أو الانتقال إلى موقع آخر. تُضاف إلى ذلك محدودية الكوادر من أطباء وممرّضين وفنيّين، ففي اختصاصات معيّنة لا نجد أكثر من طبيب أو اثنَين فقط". يضيف رمضان لـ"العربي الجديد"، أنّه "على سبيل احتياجات النهوض بواقع هذا القطاع، فإنّ الأولوية هي لعودة الدعم ورفد الكوادر الطبية. وعند تلبية الحاجة في هذَين الجانبَين، سوف يكون التحسّن واضحاً بلا شكّ. ولا بدّ من أن تتوفّر حماية للمنشآت الطبية بقرار سياسي، علماً أنّه كانت تتمّ في السابق مشاركة لمواقع وإحداثيات المرافق الطبية لإبعادها عن دائرة الاستهداف، لكنّ ذلك لم ينفع". ويتابع رمضان أنّه "من الممكن العمل على صعيد إعادة الدعم بتفعيل حملات مناصرة لتوضيح معاناة هذا القطاع أمام الفاعلين الدوليين، وربما يتمّ اللجوء إلى تقديم بعض خدمات خيرية إنّما غير مجانية بالكامل، بهدف التقليل من الأعباء المالية الكبيرة. أمّا على صعيد رفد القطاع بالكوادر، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة تعليماً طبياً مستمراً. لكنّ المؤسسات التعليمية المتوفّرة من معاهد وكليات تحتاج إلى بذل مزيد من الجهد، فثمّة مشكال للاعتراف بعدد كبير من الجامعات، فيما لدى بعضها انتماءات وتبعية معيّنة. لكنّ العمل على التعليم الطبي وتحسين ظروفه سيشكل نقلة نحو الأفضل لرفد القطاع الطبي حالياً، وهو الأمر الأكثر إلحاحاً".
وقد فاقم إغلاق المعابر بين الشمال السوري وتركيا بسبب تفشّي فيروس كورونا الجديد، سوء الوضع الطبي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، لا سيّما في إدلب، شمال غربي سورية. فعلاوة على النقص في الإمكانيات الطبية في مستشفيات إدلب ومحدوديتها، زاد إغلاق المعابر معاناة القطاع الصحي، الأمر الذي رفع عدد الوفيات بين الأطفال حديثي الولادة الذين يحتاجون إلى رعاية مركزة في المستشفيات التركية.
تقول الطبيبة آلاء عبيد، التي تعمل في مستشفى الأمومة في مدينة إدلب، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أطفالاً في حالات حرجة كانوا يُنقَلون في السابق إلى مستشفيات في تركيا، خصوصاً المواليد الخدّج". تضيف أنّ "ثمّة حالات تعاني من مشكلات قلبية وتحتاج إلى عمليات جراحية طارئة. وقد صادفنا قبل مدّة حالتَين لطفلَين، أحدهما في حاجة إلى تدخّل جراحي والآخر إلى عناية مركزة والنقل إلى تركيا. لكنّنا لم نستطع القيام بأيّ شيء من أجلهما. يضاف إلى ذلك ما يعانيه آخرون من أمراض كلوية، منها حالات قصور كلوي لدى الأطفال، وكلّها تحتاج إلى نقل إلى تركيا". وتشير إلى أنّ "إمكانيات القطاع الطبي، لا سيّما المختص برعاية الأطفال وحديثي الولادة في إدلب، لا تلبّي الحاجة. فعدد الأجهزة الخاصة بالعناية المركزة بما فيها أجهزة التنفس الصناعي والحاضنات غير كافٍ لتغطية مناطق الشمال السوري. لذا كنّا نحوّل حالات كثيرة في حاجة إلى مثل هذه الأجهزة إلى تركيا، لكنّنا اليوم لم نعد قادرين على ذلك بسبب إغلاق المعبر، وثمّة أطفال يموتون".
ومطلع الأسبوع الماضي، سمحت تركيا وفي إطار التخفيف من إجراءات مواجهة الفيروس، بفتح معبر باب الهوى أمام الحالات الطبية من جديد، والسماح لخمسة من مرضى الحالات الباردة، ومثلهم للحالات المزمنة، بالدخول يومياً إلى تركيا، وبالرغم من ذلك تبقى الحاجة لترميم القطاع الطبي من الداخل، من دون اتكال على حلول من الخارج.
من جهته، يشير الصيدلاني ظافر محلول، الذي يعمل في إحدى المنظمات الفاعلة في الشأن الصحي في إدلب، إلى أنّ "إغلاق المعابر مع تركيا كشف النقص الكبير في القطاع الطبي في إدلب، وقد ظهر العجز بالتالي في أقسام العناية المركزة للبالغين، بالإضافة إلى النقص في أقسام رعاية حديثي الولادة من أجهزة تنفس صناعي وحاضنات، إذ لا يمكن استيعاب كلّ الحالات في الشمال الخاضع لسيطرة المعارضة، فهي تحتاج إلى برامج وأجهزة رعاية خاصة غير متوفّرة لدينا". يضيف لـ"العربي الجديد": "كذلك فإنّ حركات النزوح الأخيرة والكبيرة أدّت إلى زيادة عدد المخيمات وبالتالي تفاقم المشاكل الصحية نتيجة نقص الوعي الصحي". وفي ما يخصّ الأدوية والعلاجات، يقول محلول إنّ "إغلاق المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام أدّى إلى شحّ في الأدوية في مناطقنا، وحالياً تدخل الأدوية إلينا عن طريق التهريب بأسعار مرتفعة. واعتمادنا على الأدوية بات بنسبة 95 في المائة على ما يأتينا عن طريق التهريب من مناطق النظام. وسابقاً كانت لدينا في مناطقنا أكثر من منشأة لتصنيع الأدوية وكانت تغطّي حاجة السوق المحلي بنسبة كبيرة وتعتمد على تبادل الأدوية بينها وبين المعامل أو الشركات في مناطق النظام، لكنّ إغلاق المعابر أدّى إلى إنهاء حالة التبادل وبالتالي ظهرت الفروقات في الأسعار".
أمّا الطبيب مازن كوارة، وهو المدير الإقليمي للجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز) في تركيا، والتي تُعَدّ من أهمّ المنظمات التي تدعم القطاع الطبي في إدلب وغيرها من المناطق، فلا يوافق على ما يُتداول عن تراجع الدعم الطبي في إدلب، ويقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "الدعم الطبي لقطاع الصحة في إدلب مستمرّ كما هو وكما كان مخططاً له لعام 2020، وقد أُرسلت أموال إضافية للاستجابات المختلفة الخاصة بالقطاع الطبي بعد الحملات العسكرية والتصعيد الأخير". لكنّ كوارة يرى أنّ "دعم القطاعَين الطبي والإنساني مرشّح للتراجع بعد العاشر من يوليو/ تموز المقبل إذا لم يتجدّد قرار عبور الحدود (كروسبوردر)، الذي سينتهي في هذا التاريخ. وفي هذه الحالة، سنشهد فعلاً تراجعاً في التمويل والدعم الطبي والإنساني بسبب انسحاب منظمات الأمم المتحدة والتي لن تستطيع العمل من دون مظلة هذا القرار. بالتالي، حتى لو توفّرت موارد للمانحين وأرادوا إرسالها إلى مصلحة الاستجابات الإنسانية والطبية في مناطق شمال غرب سورية وإدلب، فإنّهم سيجدون أنّ لا منظمات كافية لتلقي هذا الدعم. فالمنظمات الموجودة لن تكون قادرة على تسلم التمويل بشكل مباشر من المانحين، الأمر الذي كانت تقوم به منظمات الأمم المتحدة". ويؤكد كوارة أنّ "خللاً سيُسجّل في تقديم الدعم، إذ لن تكون الجهات المانحة قادرة على تقديم الدعم بشكل مباشر للمنظمات المحلية كونها لا تستطيع إدارة عمليات التمويل الكبرى بحسب معايير المانحين الدوليين"، لافتاً إلى أنّ "ثمّة مانحين سيجدون أنّ عدم تجديد قرار عبور الحدود من شأنه أن يضع عقبات قانونية أمام استمرار الدعم والتمويل. أمّا في ما يخصّ الأمور اللوجستية، فإنّ تركيا ستستمر في فتح الحدود أمام عبور الدعم الإنساني والطبي ومن ضمنه التمويل، حتى لو لم يُجدّد القرار".
وحول ارتباط تقلّص الدعم بملفات سياسية، يقول كوارة إنّه "إذا ركّزنا على قرار عبور الحدود بحد ذاته، فإنّه يرتبط بملفات سياسية. هذا القرار يعبّر عن رغبة النظام السوري وحلفائه بعدم توفّر معابر أخرى للمساعدات الإنسانية غير دمشق، وبالتالي فرض تحكّمهم بهذه المساعدات الإنسانية والطبية واستخدامها لأغراض سياسية وعسكرية كما كان الأمر في مناطق أخرى من سورية تعرّضت للحصار".
في السياق، يقول وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة مرام الشيخ، لـ"العربي الجديد"، إنّ "قطاع الصحة كان قطاعاً ضعيفاً أساساً، حتى قبل أزمة كورونا، وغير قادر على استيعاب الأمراض المزمنة والحالات الطارئة الاعتيادية. وذلك لأسباب عدّة، أوّلها المشاكل التي تتعلّق بحوكمة هذا القطاع وتعدّد المشاريع السياسية للفاعلين في قطاع الصحة، ثمّ عدم الالتزام بالخطط الاستراتيجية للسلطات الصحية والوزارة من قبل الفاعلين، وتسليم زمام القيادة في بعض المواقع للمنظمات الدولية، كما يحدث اليوم بالاستجابة لأزمة كورونا، فمنظمة الصحة العالمية تقود الاستجابة عن بعد، مع تنسيق ضعيف مع السلطات الصحية التي يجب أن تكون هي القائدة الفعلية لعملية الاستجابة. يضاف ذلك إلى ضعف الموارد الذاتية لدى الوزارة والمديريات وعدم التعامل بشكل مباشر من ناحية التنفيذ معها، وهذا يُعَدّ جزءاً من مشكلة الحوكمة العامة للمنطقة، إلى جانب ضعف الموارد المقدّمة من المانحين الدوليين وارتهانها لإرادة هؤلاء بشكل قد لا يتناسب مع الواقع الصحي والخطط الموضوعة من قبل الوزارة والمديريات". كذلك يشير الشيخ إلى "أسباب ذُكرت سابقاً، منها تعرّض المنشآت الطبية إلى القصف، الأمر الذي أخرج كثيراً منها عن الخدمة، مع ضياع عدد كبير من أصولها ومن الأموال التي صُرفت في تجهيز هذه المنشآت، بالإضافة إلى نزوح الكوادر الصحية نتيجة للاستهدافات المتكررة وهجرة كثير منها".
وفي ما يخصّ الحلول، يؤكد الوزير الشيخ أنّها "موجودة لكنّه لا يمكن الحديث عن حلّ لحوكمة قطاع الصحة بمعزل عن الوضع السياسي العام وحوكمة بقية القطاعات. فهذا سيكون مشروعاً كاملاً للحوكمة ويكون قطاع الصحة جزءاً منه". يضيف أنّه "كحلول مؤقتة، نقوم بالبحث دائماً عن موارد لتمويل القطاع وتسويق المنشآت والتنسيق مع الشركاء في عمليات التخطيط الخاصة بالقطاع. كذلك نؤدي دوراً كبيراً على مستوى العلاقات الخارجية مع خارجيات الدول لدعم القطاع ومناصرة القضايا المتعلقة بالصحة"، ويشدّد على أنّ "الخطط متوفّرة لكنّها في حاجة إلى الإرادة السياسية للتطبيق".
وبحسب البيانات التي حصل "العربي الجديد" عليها من مديرية صحة إدلب، فإنّ عدد المستشفيات في شمال غرب سورية يبلغ 52 مستشفى قيد الخدمة في الوقت الحالي، إلى جانبها 66 نقطة طبية ومركز رعاية أولية، فيما يصل عدد العيادات المتنقلة إلى 77 عيادة. ويصل عدد أسرّة الجناح في المستشفيات إلى 1273 سريراً، وعدد أسرّة العناية المركزة إلى 201 سرير، فيما يعمل في القطاع الطبي في إدلب وشمال غرب سورية 1358 من اختصاصيين وفنيين، من بينهم 285 طبيباً. ويقدّم القطاع الخدمات إلى 3.2 ملايين شخص، أكثر من نصفهم من النازحين.