من نافل القول، أن النقاش الذي أثاره شبح إقفال صحيفة "السفير" اللبنانية، مؤخّراً، وهو نقاش سابق بطبيعة الحال، هو في وجه من الأوجه، ولعله الوجه الأهم، نقاشٌ يطاول أزمة الكتابة الصحافية عموماً والثقافية على وجه الخصوص.
من الملاحظ أن الشقّ الثقافي في الصحافة اللبنانية، موضوع الإشكالية، يبدو عند كلّ مفرق هامشياً، فنرى إلى الملاحق واليوميات الثقافية أنها المستهدف الأول في ما يُسمّى سياسات التقشّف التي يتّبعها الناشر، والتي تصيب الصحيفة المعنية (إقفال ملحق "نوافذ" في جريدة المستقبل، وملحق جريدة النهار الثقافي، ومؤخّراً التقشّف الذي طال المساحة الثقافية في السفير).
طرحت الندوة التي أقامها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، أول أمس الخميس، إشكاليات مركّبة. المداخلات الرئيسية الأولى لكل من الشاعر عباس بيضون، والروائي حسن داوود، والشاعر عقل العويط، اتّصلت بشكل وثيق بتلك الفكرة الشائعة عن كون واقع الصحافة عموماً والثقافية خصوصاً، في لبنان، هو، في العمق، انعكاسٌ لاهتراء البنية الاجتماعية – الثقافية التي تأسست عليها بالأساس في ما سُمي حقبة الازدهار اللبناني في الخمسينيات والستينيات.
وهي الفكرة التي تحمّل الطبقة السياسية المهيمنة، فيما بعد الحرب، كما تحمّل (بحسب رأي بيضون) مجمل الشرائح، ومنها الأنا المثقفة مسؤولية تدهور الواقع الصحافي عموماً. إنه مآل الاستتباع والارتهان للرأي الواحد، بحسب العويط، والارتهان يستدرج بالضرورة وضع الثقافة على أنها شأن هامشيّ أو ديكور جانبيّ يعكس بالضرورة أوضاع الهيكل اللبناني الراهن.
آراء المداخِلين -وهم من جيل ما قبل الحرب- سوف تقابلها آراء لا يمكن عدّها تنميطية أو منساقة خلف فكرة المقارنة الواضحة بين ازدهار سابق وانحطاط لاحق في زمن الحرب؛ بل إن مداخلات جيل ما بعد الحرب تلحظ بالضرورة إدانة ضمنية للجيل السابق فيما يخصّ عدم قدرة (أو تغافل) هذا الجيل على رؤية الأزمة من منظور أشمل وأكثر دقة. منظوراتٌ لا يمكن إلا أن تطرح سؤال الثقافة نفسها وماهيتها راهناً وأشكال انفلاش الثقافة في المساحة الإلكترونية.
كل تلك الأسئلة لازمة بالضرورة لجعل فهم أزمة الثقافة وتالياً أزمة الملاحق الثقافية والمادة المقدّمة في متونها ومدى كونها هامشية أو تُجاري سؤال الصحافة الثقافية؛ نقول تجعل هذا الفهم أنضج بأشواط.
على أن المداخلين، في معظمهم، لم يحاولوا تقديم شيء محدّد أو ملموس في ما يخص الطارئ على الواقع الصحافي، وهو موضوع الندوة الرئيسيّ، فعلياً، خصوصاً إثر البلبلة التي أثارتها قضية "السفير". وهو ما حاولت الإجابة عليه بعض المداخلات، بلفت النظر إلى مركزية مسألة التمويل باعتبار نضوبه هو المؤثر الداهم على توقف ملاحق جيدة عن الصدور.
هنا لا يمكن إغفال طبيعة التبدّل الطارئ في السنوات الأخيرة الذي شكّل جزءاً من أزمة إنتاج المادة الثقافية. ونعني الوسيلة التي تقدَّم عبرها المادة ورقية أو إلكترونية وطرائق الوعي في التعامل مع هذا المتغيّر الهام.
في الخلاصة، ومع الإقرار بمركزية مسألة التمويل وهامشية وضع الثقافة ربطاً بمشكلات بنيوية يعاني منها غير بلد عربي. يبقى الالتباس هو الطابع الرئيسي في ما يطاول مجمل التعبيرات الكتابية صحافة أو نشراً.
الالتباس قد يضعنا أمام سؤالات أساسية منها سؤالُ كون الواقع الصحافيّ في بلد كلبنان يعكس، في العمق، مرحلة انتقالية نحو أشكال أخرى من التعبير والتوصيل أكثر مرونة وملاءمة أم أننا، بالفعل، نعيش اهتراءً شبه كامل للثقافة والذات؟