صحافة العبيد وصحفيون أحرار
في يوم الصحافة وعيدها يحتفل بها من أدى مهنة الصحافة بحقها، جُعل هذا اليوم لهؤلاء الذين يعرفون حق المهنة ومقامها. الصحافة ليست فقط مجرد خبر، بل هي رأي ورؤية، موقف وحقيقة. هكذا تعبر الصحافة عن نفسها، لتقوم بأدوار إعلامية، وليس فقط إعلانية، وحينما تتحول الصحافة إلى إعلان وأبواق لمن يدفع، وسند لمن يقمع؛ فإنها تفقد قيمتها، كما تفقد وظيفتها. مهنة الصحافة راقية، سلطانها فيما تُقدم. ولذلك، قام أهل الفكر والثقافة بتسميتها "السلطة الرابعة". الصحافة يمكن أن تقوم بأدوار تنويرية، كما تقوم بمهمات توعوية، توفر المعلومة والخبر، حتى يتمكن الناس من بناء المواقف، وما يترتب عليها من ممارسات، إنها الصحافة الحق، حينما تدافع عن الحق.
كان من المهم أن نصدع بهذه المقدمة في صدر هذه المقالة، لاعتبارين مهمين؛ الأول: يتعلق بالتمييز بين موقف المؤسسات الصحفية في مصر بعد الانقلاب، سواء كانت تلك مؤسسات تمثل الإعلام الرسمي، أو الإعلام غير الرسمي الذي يقف من خلفه رجال الأعمال. ومع زواج المتعة غير البريء بين رجال السلطة ورجال المال، تبدو الصحافة، في شكلها وفي أدائها وفي محتواها، تؤدي عملا غير وظيفتها وغير رسالتها. هكذا كانت الحالة الصحفية والإعلامية بعد الانقلاب، إذ قدمت هذه الأدوات سندا خطيراً لمن يعتدي على الشرعية، ومن يقمع الحريات، ومن يقوم بالقتل والاعتقال والمطاردات تحت دعاوى كثيرة، بل خرجت هذه الصحف عن أدوارها الحقيقية لأدوار عكس مقصودها في التنوير والوعي إلى صحافة تزرع الكراهية، وتصنع مادة الاقتتال الأهلي.
يتعلق الأمر الثاني بصحفيين أفراد في هذه المؤسسات، يحملون للمهنة تقديرها واحترامها ويحفظون مقامها، يؤكدون على معاني المهنية والصدقية والثقة والشفافية، يقدمون من خلال ما يؤدونه من عمل .. عملا مهما يؤدي وظيفة الوعي، ويقدم مادة لتأسيس المواقف والقدرة على التعبير وحمايته، والتأكيد على تأثيره وتمكينه، هؤلاء يمثلون مهنية الصحافة، يعرفون أخطارها، ويعرفون أن أول خطر يقع على تلك الصحافة إنما يقع من أهل السلطان، حينما يريديون أن يلحقوا عرباتهم بقاطرة السلطة، يمشون خلفها أينما سارت، ويتبعونها كعبيد، يقومون بدور السحرة، حينما ناداهم فرعون ليؤيدوا سلطانه وطغيانه، هؤلاء يعرفون الصحافة بحقها وشرطها، هؤلاء هم من يستحقون اسم الصحافة وعيدها.
يأتي اليوم العالمي لحرية الصحافة، وبيئة حرية الإعلام في مصر قد وصلت إلى منحنى، ينذر بتلاشي مقومات حرية الإعلام، وذلك في ظل ملاحقة الدولة بعض الصحف، كما حدث في واقعة تقديم وزارة الداخلية بلاغا ضد صحيفة المصري اليوم، بعد نشرها تحقيقاً يظهر الممارسات القمعية لوزارة الداخلية، كما ورد فى أحد التقارير للحالة الصحفية المصرية.
في اليوم الذي يتخذه المجتمع الدولي يوم حرية الصحافة، والذي يُعتبر فرصة لتذكير الحكومات بضرورة احترامها لها، ضربت قوات الأمن المصرية بكل مواثيق حماية حرية الصحافة ومبادئها عرض الحائط. ويوما بعد يوم، تزداد معاناة الصحافة والصحفيين في مصر، ألقت مديرية أمن البحيرة، في الساعات الأولى من صباح اليوم العالمي لحرية الصحافة، 3 مايو/أيار 2015، استمرارا لممارسات جهاز الشرطة في البطش بالصحفيين، القبض على الصحفي في جريدة الدستور، أحمد قاعود، وحسب رواية شقيقه الصحفي محمود قاعود، دهمت قوات الأمن منزل شقيقه فجراً، وألقت القبض عليه، بعد أن حطمت محتويات المنزل، واستولت على ثلاثة أجهزة لاب توب، وثلاثة موبايلات خاصة بأسرته.
وقد رصدت المفوضية المصرية 110 انتهاكات حدثت للصحفيين في الربع الأول فقط من العام الحالي 2015 ما بين مصادرة معدات وتوقيف صحفيين، مرورا بمنعهم من أدائهم مهام عملهم، وتكسير معداتهم، وصولا إلى احتجازهم والقبض عليهم. وقد ساهم الخطاب السياسي للسلطة المعادي لحرية الصحافة في تكوين مناخ عام طارد لحرية الصحافة وبيئة غير مناسبة لتمكين الصحفيين من ممارسة عملهم، من دون ضغوط، وهو ما أظهرته طبيعة مرتكبي الانتهاكات تجاه الصحفيين، والتي لم تقتصر على الجهات الأمنية فحسب، بل شملت المواطنين الذين شجعهم الخطاب السياسي لتنصيب أنفسهم رقباء على الصحفيين.
وقد ظهر هذا التردي جليا في التقرير الأخير لمنظمة مراسلون بلا حدود، والتى وضعت مصر في المرتبة الرابعة، كأكثر دول العالم سجنا للصحفيين، وكذلك حصلت مصر على المرتبة الـ159 في حرية الصحافة من بين 180 دولة شملها تقرير المنظمة، وهو الترتيب الأسوأ لمصر في السنوات الأخيرة، وأسوأ من فترة ما قبل ثورة 25 يناير، وكذلك احتلت مصر المرتبة الثانية في أكثر دول العالم اعتقالا للصحفيين.
وفي الختام، لابد من أن نؤكد في يوم الصحافة العالمي أن هؤلاء الصحفيين الذين مارسوا مهنتهم بكل مهنية وشفافية وصدقية، وأضيروا ببطش السلطان الذي يوجه رسالة مزدوجة إلى من انضموا في ركابه، وصاروا من عبيده، يصور لهم أنهم في مأمن، ماداموا في خدمته، ويوجه الرسالة الثانية إلى هؤلاء الذين يكشفون كل حقيقة، ويصورونها، أنهم من أعدائه، لأنهم لا يريدون إلا كشف حقيقة طغيانه، وقمعه وبغيه وممارسة استبداد سلطانه، يحرك كل أدوات بطشه وقمعه، لكنه لا يريد لها أن تنكشف. إن الصحافة الحرة من الأحرار هي أكبر عدو، بل هي العدو الحقيقي لساحة الطغيان من كل سلطان، يريد أن يخفي أو يغطي كل أفعاله وسياسته فى البطش والقمع.
ومن هنا، يتأكد للجميع أن من يحتفل بيوم الصحافة العالمي إنما يحتفل بصحافة الأحرار والحرية، لا صحافة الطغيان والعبودية، وتجدون، للأسف الشديد، أن صحافة العبيد تقوم بعملها في خدمة المستبد، تبرر أفعاله، حتى لو تعلقت بزملاء له، أضيروا من جراء مهنتهم وعملهم. ومن المؤسف أن نجد النزر اليسير هو من يطالب بهذه الحقوق، وتتأخر وتتباطأ المؤسسات المهنية والنقابية في المطالبة بحقوقهم، خصوصاً أن تلك الحقوق تتعلق بقتل بعضهم، وباعتقال آخرين، ومطاردة آخرين، فإلى هؤلاء الصحفيين الشهداء والمعتقلين تحية في عيد الصحافة، وإلى الذين يدافعون عن مهنتهم، وعن زملائهم شهداء الصحافة، تحية في عيدهم. أما الذين استناموا إلى كل مستبد، فليس لهم أن يحتفلوا بالحرية، وهم في كنف الاستبداد، للحرية عنوانها وعملها ومقامها، فلتحتفل صحافة الأحرار بكل الأحرار، ولا نامت أعين الجبناء من سدنة المستبدين، والذين يحسنون أن يكونوا في مهنة العبيد.