يقف الثلاثيني خميس شَلّح على مفترق طريق الأزهر غربي مدينة غزة، حاملاً إبريق القهوة النحاسي الذي اعتاد على حمله منذ نعومة أظافره، يصب القهوة لسائقي السيارات، وطلاب الجامعات والمارة، الذين أبدوا إعجابهم بقهوته العربية المميزة.
وورث شَلَّح (33 عاماً) مهنة "صبّاب القهوة" أباً عن جد، حيث كان يرافق والده في سنوات عمره الأولى، ويساعده في مهنته التي عمل فيها جده وعدد من أقاربه، وهي من المهن التي تعكس جزءاً من التقاليد الفلسطينية التي تمتد بجذورها في تاريخ الوطن، مثل "صبّاب الخروب وعرق السوس والكركاديه وغيرها".
ويقول شَلّح المشهور بين زبائنه بـ "أبو الهيثم" إن مهنته في الأساس هي صب القهوة في الأفراح والأتراح (المآتم) والمناسبات الكبيرة، إضافة إلى صب العصير والشاي، إلا أن الظرف الذي يمر به قطاع غزة من إغلاق وتردٍّ في الأوضاع الاقتصادية دفعه وباقي أشقائه إلى العمل على الإشارات الضوئية، والميادين العامة، على الرغم من عائدها البسيط والذي يكاد يوفر لقمة العيش.
ويضيف لـ "العربي الجديد": أن"أخي الكبير ناجي وأولاده يعملون بمهنة صب القهوة في ميدان فلسطين، كذلك يعمل شقيقي الصغير معتز والأصغر عبد الله"، مبيناً أن والده عمل في مهنة صب القهوة حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ما أورث أشقاءه حب تلك المهنة الشاقة.
وعن طبيعة عمله اليومي، يقول: "أستيقظ منذ الفجر، أتناول إفطاري، ومن ثم أذهب الى الخان لبيع القهوة هناك الساعة الخامسة والنصف ولمدة ساعة، ومن ثم أحمل الصَباب والكانون والفحم وباقي المعدات وأذهب بها الى مفترق الأزهر، وأبيع هناك حتى أذان الظهر".
ويوضح أبو الهيثم أنه وعلى الرغم من المشقة التي يعانيها جراء إصابته بتسدد الشرايين جراء إشعال الفحم، إلا أنه بدأ بتعليم طفله هيثم تلك المهنة، ويقول "لا توجد بدائل لهذه المهنة المتوارثة، خاصة في ظل انعدام فرص العمل في القطاع حتى أمام الخريجين".
وفي ميدان فلسطين المكتظ بالمارة والسيارات، بدا أبو رامي حمد (38 عاماً) منهكاً وهو يتجول بين السيارات حاملاً صَباب القهوة الموقد بالفحم، ويقول إنه يعمل في صب القهوة منذ عشرين عاماً، وإن عمله يقتصر على ميدان فلسطين ومفترق السرايا وسط مدينة غزة.
وعن سر إعجابه بهذه المهنة، يقول، لـ "العربي الجديد"، "ذهبت برفقة والدي وإخوتي إلى احدى المناسبات الخاصة بالعائلة، ورأيت صباباً يصب القهوة للضيوف، وكان يلبس لبساً تراثياً مميزاً، لفت أنظار الحضور، ما دفعني إلى حب تلك المهنة، وبعد أيام قليلة بدأت العمل بها".
ويوضح أبو رامي، وهو أب لخمسة أطفال، أنّ عائد تلك المهنة بسيط لكنه يفي إلى حد ما بتوفير احتياجات البيت الهامة، مضيفاً "أتمنى على الصبابين كافة لبس الزي التراثي خلال عملهم في صب القهوة أو الخروب للدلالة على أصالة هذه المهنة، وعراقتها".
ويمتهن المئات من أهالي قطاع غزة مهناً يدوية قديمة توارثتها الأجيال، ولم تتمكن الحداثة من إلغاء نكهتها التراثية الأصيلة أو دثرها، كالأفران القديمة والصباب والإسكافي وصانعي الأواني الفخارية والزجاج والخزف، كما أنها ساعدتهم على مواجهة شبح البطالة والفقر في ظل الحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع منذ سبع سنوات.
وزادت نسبة البطالة والفقر بشكل حاد بعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على القطاع في الربع الأخير العام الماضي، والذي استمر 51 يوماً، وتسببت في تدمير أكثر من 500 منشأة اقتصادية، وآلاف المباني، ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة في القطاع، إلى 60%، والفقر إلى 80%، وبلغ متوسط دخل الفرد يومياً دولارا فقط، وفق إحصائية أصدرتها اللجنة الشعبية لكسر الحصار عن غزة.
وأوضح الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، في بيانات سابقة، أن حكومة التوافق الفلسطينية تجاهلت منذ تشكيلها في الثاني من يونيو/حزيران الماضي 200 ألف عامل عاطل عن العمل في غزة، مشيراً إلى أنه منذ سبعة شهور، ألغت برنامج التشغيل المؤقت الذي كانت حكومة غزة السابقة تقدمه للعمال، ما ساهم في تفاقم مشكلة البطالة وزيادة الأعباء المعيشية في ظل ارتفاع الأسعار ونقص السلع الأساسية، خاصة بعد أن قام النظام المصري الحالي بهدم مئات الأنفاق على الحدود بين القطاع وسيناء (شمال شرق مصر) الأمر الذي أدى إلى زيادة معاناة سكان غزة.
اقرأ أيضاً: 200 ألف عاطل في غزة