صباح الياسمين.. يا عيلان!

17 سبتمبر 2015
احتضنتُ طفلي حين شاهدتُ ذلك الطفل "عيلان" (فرانس برس)
+ الخط -

صباح الياسمين..يا عيلان!
ننتعل أفئدتنا.. ونغوص في غياهب اللاعنوان..
دروبنا كلها لا تؤدي إلى مكان، رقابنا مشرئبة نحو السماء، معلقة بنجمة علّها تضيء دروب من غادرونا واختاروا بين انتحارين: انتحار بالبحر بحثاً عن الغد، أو انتحار تحت البراميل نزوحاً من مرارة اليوم، نحو أحضان الأمس..


سيان لدينا اليوم وغد، ولا معنى لمرور الساعات إلا مزيداً من الجلد للروح، والذاكرة..
لا إنجازات جديدة ننجزها في حياتنا نحن السوريين، إنجازنا الأكبر هو اكتشاف أننا ما زلنا على قيد الحياة..

لم نعد نفتتح صباحاتنا بفناجين القهوة التي نرتشفها إلى جانب أصص الزرع، ورائحة الياسمين، وكأس الماء الذي يحتضن فلة وزنبقة بحرية.. صرنا نباشر يومنا بتفقد أخبار أهلنا عبر فيسبوك، فيطالعك نبأ غارة جوية تدمّر ركناً ألفته، أو بيتاً سكنته، وستكون محظوظاً جداً إن لم تفتتح يومك بنبأ رحيل أحد أحبائك..

في واحد من تلك الصباحات، ومثل كلّ الأمهات السوريات، احتضنت طفلي حين شاهدت ذلك الطفل "عيلان" وهو مسجى على أديم الرمل الحارق، الذي بدا رؤوفاً بجسده أكثر من كثير من أشباه البشر، ممن شمتوا بريحانة اختنقت لأنها أغرقت بالماء!

نوبة الحزن والبكاء تتحول إلى دهشة، فالمشهد التالي أقسى: طفلة مقطّعة الأوصال، مزّقتها القذائف إلى ألف وردة.. ووردة، ودفنت تلك الورود كلها تحت الأنقاض..دفنت روحاً نقية لم تلوّثها بعد سموم الحرب، لم تتنشق عوادم الحقد التي باتت تنبعث في كلّ أرجاء البلد، باتت حلماً كانت والدتها تنتظره لينضج، حلماً بأن تراها عروساً يوماً ما، أو ملاك رحمة بثوب أبيض، ينقذ أطفال سوريا من براثن الحرب، التي لم تتمكن هي من إنقاذ ابنتها منها..
حسدت والد عيلان، فالماء مهما كان قاسياً يظل أخف وطأة من النار..

حسدته لأنه وجد جثة يحتضنها ويودعها، فالكثير من الأجساد يبتلعها البحر، ولكن الجسد هذه المرة رسا على الشاطئ .. وحدهم الناجون من رحلة الموت هذه يدركون ما قاساه عيلان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة..

الطفلة أيضاً تستحق أن تحسد على ميتتها، فلا اختناق، ولا صراع مع الأمواج، برميل واحد كفيل بإنهاء كلّ المعاناة، ودون أن ترتجف روحها وهي تستحضر شبح الموت..

طفل ثالث، تركله المذيعة المجرية وهو يجتاز الأسلاك الشائكة، وأب ثالث لا يتمكن من منح ولده الأمان وهو يحتضنه، فالرّكلة الأقوى كانت لروح ذلك الطفل .. كم من الألم سيحمله ذلك الطفل في مخيلته!

فوالده الذي كان يضنّ عليه من حواف الأسلاك المدببة، لم يتصوّر أن ثمة أرواحاً تملك حوافَّ أحدّ من تلك الأسلاك، كم ستئنّ روحه، حين يمرّ هذا الشريط القاسي أمام عينيه!

هكذا نمضي أيامنا في منافينا، نحصي من بقي من ذوينا على قيد الحياة، وحيدين في مناف ساقنا إليها شعور اللاجدوى، وفي كلّ يوم نزداد يقيناً أن هذا الشعور سيبقى ملازماً لنا، فياسمين دمشق سيظل يخز أرواحنا برائحته الفريدة، لنغيب بعدها في نوبات من الحنين..
نسيم بردى، سيبقى يحملنا على جناحيه محلّقاً بنا في سماء الشام، كلما ابتسم الربيع، حيثما كنا، وفي أي بقعة من بقاع الأرض.

ستبقى أرواحنا تهفو إلى وقفة في أعلى التلة التي تقع عليها حلب، فيما آذاننا تتلقف تلك النغمات، والآهات والأمان، فتنتشي طرباً وتذوب بين سحرين ..سحر منظر حلب من سور القلعة، وسحر النغمة الشجية التي لا يشبهها أي لحن آخر..

أطفالنا، أو من تبقى من أطفالنا، لن يتذكروا كل هذا، سيتذكرون صورة عيلان، وصورة حمزة، وهاجر، وعلا، سيحملون شبح الموت في مخيلاتهم أنى رحلوا، كم ستكون قاسية صباحات أطفالنا بلا الياسمين، ونسائم بردى، والنغمات التي تصدح من سور القلعة!

وحدهم عيلان .. وهاجر .. وحمزة.. وغيرهم كثير من الأطفال سيستمتعون برائحة الياسمين، ونسائم بردى، وسيحلّقون بأجنحتهم الذهبية فوق القلعة، ليكونوا بوصلتنا إلى هناك..

(سورية)

المساهمون