صادق جلال العظم في عمّان

16 ديسمبر 2016
+ الخط -
كنت في السنة الثالثة من دراستي في الجامعة الأردنية، حين تعرّفت على صادق جلال العظم الذي انضم للهيئة التدريسية في الجامعة، خلال العام الدراسي 1968/ 1969. وكنت قد قرأت له كتابه الشهير "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وتأثرت بمنهجه العقلاني، ونزعته النقدية الصارمة. وكنت، من حين إلى آخر، قد تابعت بعض مقالاته في مجلة "دراسات عربية"، بما فيها التي جُمعت في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة".
كان قد فُصل من الجامعة الأميركية في بيروت، وجاء تعيينه مدرّساً للفلسفة في كلية الآداب في الجامعة الأردنية ضرباً من المفاجأة لي ولغيري ممن اطّلعوا على كتاباته. وقد سمح المناخ السياسي الذي كان سائداً في الأردن والعالم العربي بخطوة إدارة الجامعة الأردنية التي كانت تتسم بقدرٍ من النزعة المحافظة، فقد كنا في زمن ما بعد حرب 1967 والهزيمة المدوية للجيوش العربية وصعود موجة المقاومة الفلسطينية المسلحة التي بدأت للتو الوجود بكثافة في الأراضي الأردنية. وفي خلفية ذلك الصعود الفلسطيني، كان العالم يعيش تحت تأثير الهزائم الأميركية في فيتنام، وتنامي حركات الاحتجاج الشبابية والطلابية في أوروبا والولايات المتحدة. وبالقدر نفسه، كانت حركات التحرّر الوطني في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا حاضرةً بقوة في المشهد العالمي، وغنيّ عن البيان أن الصبغة العامة لتلك الحركات كانت يسارية عموماً.
ما كان انتقال صادق العظم للتدريس في الجامعة الأردنية ليتم لولا تدخل أحمد طوقان (الوزير في حكومات أردنية سابقة، والشقيق الأكبر لشاعري فلسطين إبراهيم طوقان وفدوى طوقان) والد زوجته فوز، وكان حينها نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية والدفاع. ولكن نفوذ أحمد طوقان لم يكن ليحول دون تجديد عقد صادق العظم سنة دراسية أخرى، إذ حالت الأجهزة الأمنية دون ذلك.
كان لقائي الأول بالعظم على غداء، بدعوة من نايف حواتمة الذي كان قد عاد إلى عمّان، بعيد تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان حينها يتزعم ما وصف بالجناح اليساري في الجبهة العتيدة. ومع قرابتنا السياسية، فإني لا أذكر أنني التقيت حواتمة في جلساتٍ ذات طابع اجتماعي، إلا بعد سنواتٍ طويلة في نهاية الثمانينيات في دمشق. كان أبو النوف مهتماً بالتعرّف على المناخ الثقافي في عمّان، وعلى رموز الثقافة اليسارية، ولا بد أنه كان قلقاً من جفاف عمّان الثقافي، مقارنةً بمدينة بيروت، حيث كان يقيم سنوات طويلة.
خلال العام الوحيد الذي قضاه صادق العظم في عمّان، كنت ألتقي به، وأنا الطالب والناشط السياسي، بصورةٍ تكاد تكون يومية، إن لم يكن في الجامعة، ففي جلسات خاصةٍ في منزل أهلي، أو في مرسمي، أو في "الأسد الأحمر"، وهو نادٍ ليلي.
كنت عام 68/ 1969 أقود تنظيماً طلابياً فريداً في تكوينه وبنيته التنظيمية، هو "جبهة العمل الطلابي". ولأسبابٍ تتعلق بالتنافس السياسي على تمثيل طلبة الأردن، فقد اقترن بهذا الاسم اسم آخر هو "الاتحاد الوطني لطلبة الأردن"، والذي عاش عقوداً، من خلال تنظيماته خارج
الأردن، وكان محسوباً على الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. قبل ذلك، كانت "جبهة العمل الطلابي" أقرب ما تكون إلى تنظيم سياسي للطلبة، أو هي بمثابة "حزب سياسي طلابي"، فقد كانت ترفع شعاراتٍ خاصة بها من نوع ربط الجامعات، والتعليم عموماً، بالعملية الإنتاجية، وبمراجعة دور الجامعات التقليدي القائم على تزويد الأجهزة البيروقراطية بالكوادر، وتدعو الجامعات إلى الإسهام في تحويل الاقتصاد الأردني عن دوره الخدماتي، ليكون إنتاجياً متنوعاً. حينها، أسهم صادق العظم في توجيه انتباهي نحو أهمية لعب جبهة النضال الطلابي دوراً مباشراً في الدفاع عن مصالح الطلبة اليومية والمعيشية، وأن نكون صوتهم في رفع المطالب إلى إدارة الجامعات، وبالتالي، عدم الاكتفاء بترديد الشعارات الاستراتيجية والتثقيف السياسي.
وأزعم أن صادق العظم كان وراء زرع فكرة تحول "جبهة النضال الطلابي" إلى "اتحاد طلابي" أو "نقابة طلابية" في أذهان قيادة ذلك التنظيم، وأنا منها. وأذكر أننا خضنا حينها عدة معارك مطلبية، منها تخفيض أسعار الوجبات في كافتيريا الجامعة، وخفض الرسوم الجامعية. وفي العام الجامعي التالي 1969/1970 احتل الاسم الثاني للتنظيم الطلابي "الاتحاد الوطني لطلبة الأردن" محل اسمه الرومانسي الأول، والذي كان يميز نفسه بشعار مرسوم يجمع بين البندقية والقلم، وهما في وضعية متقاطعة، وبينهما كتابٌ مفتوح خلفه أشعة الشمس.
إلى جانب عملي الطلابي، كنت قد انضممت إلى منى السعودي، النحّاتة الأردنية التي كانت تقيم في باريس، وعادت بعيد حرب 1967 إلى الأردن، لتنفذ مشروعاً فنياً يشجع أطفال مخيم النازحين في البقعة على رسم معاناتهم ومشاهداتهم عن الحرب والنزوح والعيش في الخيام. كنت حينها أتردّد دورياً على المخيم الذي كان فيه حضور مؤثر للجبهة الشعبية. كان قد أقيم قبل نحو العام، ويعتمد أساساً على الخيام المنصوبة لإيواء العائلات النازحة من الضفة الغربية إبّان حرب 1967، وكان يفتقر إلى الحد الأدنى من البنية التحتية. وهكذا، كان علينا أن ننفذ مشروع جمع رسوم أطفال البقعة في ظروفٍ غايةٍ في الصعوبة، خصوصاً في أشهر الشتاء، حين كانت الخيام والطرق المحيطة بها تغرق في الطين.
كان علينا أن نلجأ إلى مدارس وكالة الغوث في المخيم التي كانت أيضاً خيماً وبركسات بدائية. كما لجأنا إلى عبدالله حمودة، وهو صديق ورفيق سابق في حركة القوميين العرب، كان يزاول دوره القيادي في الجبهة الشعبية من مقرّه في مخيم البقعة. وفّر لنا حمودة الدعم السياسي واللوجستي، لتنفيذ مشروع فني- سياسي ريادي، ما كان ليتحقق بدونه. وهكذا كنا نجمع رسوم الأطفال يوماً بعد يوم، ونحفظها في مرسمي في جبل عمان، لنقوم بعد ذلك بتصنيفها وتقييمها واختيار الأفضل بينها لغايات العرض والنشر.
لعب صادق العظم، الذي تعرّف على منى السعودي وعبدالله حمودة في مرسمي، دوراً مهماً في تعريف الرأي العام العربي برسوم أطفال مخيم البقعة للنازحين الفلسطينيين، بكتابة مقالة
تعريفية عن المشروع، والقائمين عليه، وأبرز الموضوعات والاهتمامات التي تناولها الأطفال في رسومهم. ونشرت المقالة في الصحف اللبنانية الرئيسية. وأكثر من ذلك، تبرّع على نفقته بطباعة مطويةٍ ملونةٍ للمعرض الأول لرسوم أطفال البقعة، والذي أقيم في بركسات الوكالة في المخيم. واحتوى البروشور على مقالة صادق جلال العظم عن المشروع، والتي ظلت المادة الرئيسية للتعريف برسوم أطفال البقعة، إلى أن انتقلت منى السعودي إلى بيروت، ونشرت حينها كتاباً ضم نماذج من تلك الرسوم، من دون إشارةٍ إلى جهود صادق العظم أو الفريق الذي دعم تنفيذ المشروع ميدانياً.
لا أعرف الكثير عن تأثير صادق العظم على طلبة الفلسفة في سنته الوحيدة مدرّساً في الجامعة الأردنية، فقد كنت، حينذاك، طالباً في كلية العلوم السياسية والإدارة العامة. لكن كانت له مساهمات في المجال العام داخل الجامعة وخارجها. لعل أبرز مساهماته في المجال الجامعي العام المناظرة الحوارية التي رعتها جمعية طلبة العلوم السياسية، وضمت محمد صقر، وهو أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة، وكان أستاذاً للاقتصاد في الجامعة، والأكاديمي اليساري المصري وأستاذ علم النفس في الجامعة، حنا عزيز. وكانت المناظرة بمثابة "مصيدة مدبّرة"، من تنظيمنا الطلابي يساري الهوى، للدكتور صقر والتيار الذي كان يمثله. وقد انتهت لصالح العظم وعزيز، حيث كان الجمهور، في أغلبه مشبعاً بالأفكار المؤيدة للمقاومة والتيارات اليسارية والقومية. وبقدر ما كان صادق العظم يحظى بتقدير تيار واسع من الطلبة الذين احترموا تواضعه، ودماثته وتعامله النديّ معهم، فإن تياراً آخر من الطلبة والأكاديميين المحافظين أخذوا منه موقف العداء، ولم يفهموا أبداً نزعته المنفتحة على طلبته، ولا نمطه الحياتي، وبالتأكيد أفكاره ومسلكه الليبرالي.
غادر صادق العظم الجامعة الأردنية في نهاية العام الدراسي، ثم عكف على الانتهاء من تحرير كتابه الأشهر "نقد الفكر الديني"، ودفع به للنشر لدى دار الطليعة، ولم يلبث أن تعرّض، هو وناشر الكتاب بشير الداعوق، للملاحقة القضائية بفعل دعوى رُفعت ضده، بتهمة الإساءة للدين الإسلامي. وبعد اختفاءٍ قصير خارج لبنان، بمساعدة أحد فصائل المقاومة، عاد إلى بيروت ليرأس تحرير مجلة "دراسات عربية" عامي 1969/ 1970. كما عمل باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، ومحرّراً للشؤون الدولية في مجلة "شؤون فلسطينية" الصادرة عن المركز نفسه.
زار صادق العظم عمّان عدة أيام عشية انفجار اشتباكات أيلول/سبتمبر 1970 الدامية، لحضور اجتماع طارئ للمجلس الوطني الفلسطيني، عُقد بمشاركة طائفةٍ واسعةٍ من السياسيين العرب المؤيدين لحركة المقاومة الفلسطينية. ولا أعرف إن كان زار عمّان في العقود الثلاثة التالية، لكن المؤكد أنه في عامه الوحيد في الجامعة الأردنية ترك بصماتٍ قويةً على كل من عرفه، أو تتلمذ على يديه مباشرة. لم تكن جامعات الأردن حينذاك (وربما في أي وقت) جاهزةً لاستضافة مفكّر حر بقامة صادق جلال العظم، وهو الذي ضاقت به الجامعة الأميركية في بيروت يوماً.
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني