شيزوفرينيا في العالم النامي

26 مايو 2015
+ الخط -
كل البلدان النامية والمتخلفة في آخر الركب الحضاري والإنساني، كل هذه البلدان غير الديمقراطية والتي ناضلت كثيرا! واستنزفت حتى مقدرات شعوبها في سبيل أن لا يعلم إنسانها شيئاً، عن الحرية أو أنواعا منها حتى، كلها ومنها البلدان العربية ظلت تسوق بحرية مطلقة، حرية إلهية تعبد، بأن إنسانها الذي تملك أغلى ما تملك، بينما هي سوقت، من خلال ذلك، بدهاء، أن أغلى ما تملك شعوبها هي الأنظمة.
نهبت رؤوس هذه البلدان كينونة (إنسانية) شعوبها وصنعت منها مخلوقا تناقضيا، بحيث شكل بمجمله شعبا شيزوفرينيا، لكنه، كأفراد، هم أصحاب نظرة امتعاضية ناقدة ثائرة، تحترق كبتا ومرارة على انتقاص إنسانيتها وامتهانها!
تركوا رؤوس تلك الأنظمة شعوبهم المتناقضة، ولسان حالها كمن ينادي على من يعبئها (...) فالكل غاضب، لكن على حدة، والكل ثائر، لكن على حدة، والكل عارف، لكن على حدة، والكل على استعداد للتضحية، لكن على حدة (...). كل الذين قابلتهم يوما وبحنا لبعضنا بشيء من عدم التناقض أو أصبحنا فجأة وبالمصادفة لا شيزوفرينيين، لا بد أن يكون بينهم، بيننا، القاسم المشترك التالي: أتعلم شيئا؟ لم أكن أعرف أن أبي وطني وواع وناقم وكاره لهذه الرؤوس إلى هذه الدرجة! أبي عظيم، لكني لم أفهمه يوما أو كان (يخاف علينا).
من غير المستغرب، مثلاً، أن أسير في الشارع، وأسمع أناساً يدافعون عن داعش، على الرغم من أنهم يمقتون أساليبها الإجرامية في التعامل مع البشر والشجر والحجر! لا أريد أن أطلق هنا اعتقادا أن منبع ذلك هو حقدهم على تصرفات الشيعة في سورية والعراق واليمن، ومن ورائهم إيران، لكن هذه النظرة تجاه داعش مثالاً، نبعت من التناقض التي عاشته هذه الشعوب وأجبرت عليه من أنظمتها، بحيث أصبح هناك عقل باطن جماعي شعبي، ينادي ويتوق للتعبئة ويرى داعش نموذجا تعبوياً، بغض النظر عن إجرامها، أي داعش، للتخلص من الظلم والقهر والدونية أمام شعوب العالم المتحضر.
حتى تلك البلدان النامية المتخلفة -العربية- الأكثر غنى وسعة في الرزق، حتى هذه لم تسلم شعوبها من ذات الشيزوفرينيا التي تعاني منها تلك الشعوب الأقل حظا، مع فارق بسيط، ينحصر قصرا على إمكانية امتلاك مزيد من الأشياء، كأن نقول إن ثمة فرقاً بين الكلاب المدللة التي تعيش في فرنسا والكلاب المدللة، لو اعتبرناها مدللة، والتي تعيش في كينيا، وثمة فارق مخيف مثلا بين الملياري دولار التي تنفق سنوياً على الثمانية ملايين كلب مدلل، والتي تعيش في فرنسا، الموازنة العامة لكينيا.
لن تقوى يوماً، أنظمة الدول النامية والمتخلفة، بكل قواها السحرية المرعبة، ولا حتى بمباركة شعوبها، فيما لو أدركت تلك الأنظمة يوماً مدى خطورة الشيزوفرينيا التي باتت تعاني منها شعوبها، وتعتبر من أخطر أعراض مرض التدعشن المزمن الذي يدمر صحة بلدان كاملة بتاريخها وحدودها وهويتها، لن تقوى يوماً على إنهاء حالة الشيزوفرينيا هذه التي ستقضي على ما تبقى من إنسانية تلتصق في زوايا هذه الشعوب المنهكة اللاهثة وحوافها.
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
بشار طافش (الأردن)
بشار طافش (الأردن)