لدى السيدة غلامي سيارة صغيرة تستخدمها لتكسب قوت عيشها وتعيل ابنتيها، هي أكثر من دليلة سياحية شيرازية، فهي راوية وصاحبة الحكاية أيضا، حكاية مدينة يزيد عمرها عن ألفي عام، وكانت مهدا لحضارة ولإمبراطورية فارسية ما زالت حية في قلب كل إيراني رغم تبدل شكل الحكومات.
تقول السيدة الأربعينية إنها تعيش اختلاطا في المشاعر كلما زارت مناطق شيراز التاريخية مع السياح الأجانب ممن تنقلهم من مكان لآخر، ففي عرش جمشيد، الملك الأخميني، تتذكر أن فارس كانت بعيدة جدا في حدودها، وفي باسارغاد حيث قبر كوروش الكبير أو من يقال إنه ذاته ذو القرنين، تلامس حدود السماء، وهناك حيث توجد كعبة الزرادشتيين إلى جانب قبور أهم ملوك الأخمينية لا تخفي حنينها لأيام لم تعشها إلا في مخيلتها وانتقل إرثها إليها من ذاكرة لأخرى.
في شيراز عاشت الأساطير وطقوسها قبل آلاف السنين، تلك التي تتحدث عن صراع الخير والشر، النور والظلام، وحيث كانت الزرادشتية دينا رسميا قبل دخول الإسلام إليها، وما زالت الطقوس التي يحييها الإيرانيون حتى يومنا هذا تحمل صبغة مراسم كانت شيراز قبلة لها في أزمنة ولّت.
تقول غلامي إن فيها شيئا من كل شيء، وهي جملة قد تكون مبهمة قليلا لكنها تؤشر لحقيقة ما، فهي تعيش في أعماقها مع التاريخ والأساطير ومع زرادشت، وحتى مع إيران الإسلامية اليوم، وتتابع بالقول "هذا طبيعي، أنا كشيراز، وكمعظم الإيرانيين أيضا، نحمل جميعا هذه الهوية المركبة".
صدقت غلامي حين قالت ذلك، فشيراز بالفعل تجمع الأضداد والمتناقضات مع بعضها البعض، وترسم هوية مختلفة تعكس أيضا حقيقة الشخصية الإيرانية التي ما زالت مرتبطة وبشكل وثيق بتاريخها القديم، ويرى زائر المنطقة، ذلك كما يستطيع أن يعيش كل المتناقضات في كل التفاصيل وهي مصطفة إلى جانب بعضها البعض.
كل من يصل إلى هناك، يعرف أن عليه أن يقصد قبور أهم شعراء إيران، فلا يضيع الشيرازيون ولا الإيرانيون القادمون من كل ناحية في البلاد طريق الوصول إلى مرقد حافظ الشيرازي، أو لسان الغيب كما يسمّونه، هو أشهر شعراء البلاد على الإطلاق والحاضر في كل بيت وفي أغلب المناسبات، وهو شاعر الغزل والعرفان والذي يتبادل الإيرانيون مع ديوانه أسرارهم حتى اليوم، فهم على قناعة بأنه يخبرهم بطالعهم، فيكفي أن يضمروا نية لفعل أمر ما في باطنهم، ليردّ عليهم بشعره، وبالقرب من مرقده يتزاحم الزوار وبيدهم ديوان حافظ، ولا يختلف أحد على بلاغته وفصاحته وتفسيره للعشق، وحتى من يحسبون على المتدينين في إيران يكنّون شعورا خاصا لحافظ.
وفي مكان قريب، لا ينسى أحد أن يزور مرقد سعدي الشيرازي أيضا، الشاعر والمتصوف من القرن السابع للهجرة، هناك يسمع الزائر صوت الموسيقى الفارسية عاليا ويتخللها صوت لمن يقرأ شعره، ويقول عنه الأدباء إنه متأثر كثيرا بالقرآن الكريم وباللغة العربية، ويقال كذلك إن ذاك المكان هو مسكن سعدي ذاته والذي كان يقطنه قبل سبعة قرون ويختلي فيه لينظم الشعر، وتحول اليوم إلى شبه مزار، وفيه حوض ماء اعتاد الإيرانيون قبل أن يجف أن يرموا قطعا نقدية بداخله، متمنين تحقق مكنوناتهم، لتختلط المعتقدات مجددا مع بعضها البعض حتى في هذه البقعة، التي يزورها رواد ومحبو الشعر والأدب الفارسي من المتدينين وغيرهم.
أما في أماكنها المفتوحة، فيستطيع زائر شيراز أن يلحظ فور وصوله إليها أنها منطقة جافة، حارة، صحراوية، وتتخللها بعض الأشجار في بقع محددة تكون ألطف في مناخها، وكأنها كانت على شكل واحات في القدم، كما يرى الأفق واسعا في قسم كبير منها دون أن تشوهه المباني العالية، لكن الغزو العمراني الحديث طاولها في جزء صغير وفي الجهة الثانية من المدينة.
ليل شيراز يختلف كذلك عن نهارها بالكامل، فمن ساعات الظهر حتى ما بعد العصر لا تختبر ازدحام السيارات ولا المارة، بل وتكاد تخلو صيفا في هذه الساعات، وما زال قاطنوها يحتفظون بطقس القيلولة واستراحة وسط النهار كما كانت تفعل طهران قبل عقد تقريبا، ويفضّل سكان شيراز الابتعاد عن الحر الذي يستمر فيها حتى وقت متأخر من الخريف، لكن الحياة تعود وتدبّ في المدينة الفارسية ليلا وحتى ساعات الفجر، وتختلف بهذا عن مدن إيرانية كثيرة.
في هذه الساعات، ترى سكانها في الساحات والميادين والحدائق هاربين من الحر، أما المشهد الذي يبدو طبيعيا في شيراز على عكس غالبية المدن الثانية فهو من نصيب نسائها الشابات والكبيرات في السن على حد سواء، اللواتي يجلسن ويتسامرن معا ويدخِّنّ "النارجيلة"، هذا المشهد غير مستغرب على الإطلاق في وقت ما زال الجدل يدور حول السماح للفتيات بتدخين النارجيلة في الأماكن العامة في العاصمة طهران من عدم ذلك، لكنه قد يكون في شيراز عادة وثقافة متوارثة، فتبدو السيدة وكأنها خارجة من منمنمة إيرانية لطالما رسمت السيدات والنارجيلة دون تحفظ.
وفي هذه المدينة التي اعتادت زيارة الغرباء عتب على المعنيين، إذ إن بعض أماكنها السياحية تفتقد لعناية أكبر. هذا ما يقوله البعض في شيراز، لكنهم يتراجعون عن ذلك فور إدراكهم أنهم يتحدثون لسائح أجنبي، تناقض آخر لا يعني إلا استماتة في الدفاع عن الهوية.
يتحفظون قليلا على زوارها من العرب بالذات، ممن يقصدونها غالبا لأغراض طبية ويزورون مناطقها الطبيعية لا التاريخية، فاللوم هنا يتعلق برغبة التعريف عن إرث يشكل جزءا من الهوية الإيرانية والفارسية على وجه الخصوص، وقد يدل في باطنه على الصراع التاريخي مع العرب، ومع ذلك فإن من في شيراز يعلمون أن هذه السياحة تجلب مردودا ماديا جيدا للمدينة، والتي تتأثر بالوضع الاقتصادي المرتبك كما في كل بقع إيران، وأصبح زوارها من بقية الإيرانيين يغيبون عنها في أغلب المواسم باستثناء عطلة عيد النوروز، وهذا يتعلق بالوضع المعيشي أيضا، لكن الشيرازيين أنفسهم يحرصون على عدم الغياب عن تلك الأماكن التي ترسم هويتهم.
تقول السيدة الأربعينية إنها تعيش اختلاطا في المشاعر كلما زارت مناطق شيراز التاريخية مع السياح الأجانب ممن تنقلهم من مكان لآخر، ففي عرش جمشيد، الملك الأخميني، تتذكر أن فارس كانت بعيدة جدا في حدودها، وفي باسارغاد حيث قبر كوروش الكبير أو من يقال إنه ذاته ذو القرنين، تلامس حدود السماء، وهناك حيث توجد كعبة الزرادشتيين إلى جانب قبور أهم ملوك الأخمينية لا تخفي حنينها لأيام لم تعشها إلا في مخيلتها وانتقل إرثها إليها من ذاكرة لأخرى.
في شيراز عاشت الأساطير وطقوسها قبل آلاف السنين، تلك التي تتحدث عن صراع الخير والشر، النور والظلام، وحيث كانت الزرادشتية دينا رسميا قبل دخول الإسلام إليها، وما زالت الطقوس التي يحييها الإيرانيون حتى يومنا هذا تحمل صبغة مراسم كانت شيراز قبلة لها في أزمنة ولّت.
تقول غلامي إن فيها شيئا من كل شيء، وهي جملة قد تكون مبهمة قليلا لكنها تؤشر لحقيقة ما، فهي تعيش في أعماقها مع التاريخ والأساطير ومع زرادشت، وحتى مع إيران الإسلامية اليوم، وتتابع بالقول "هذا طبيعي، أنا كشيراز، وكمعظم الإيرانيين أيضا، نحمل جميعا هذه الهوية المركبة".
صدقت غلامي حين قالت ذلك، فشيراز بالفعل تجمع الأضداد والمتناقضات مع بعضها البعض، وترسم هوية مختلفة تعكس أيضا حقيقة الشخصية الإيرانية التي ما زالت مرتبطة وبشكل وثيق بتاريخها القديم، ويرى زائر المنطقة، ذلك كما يستطيع أن يعيش كل المتناقضات في كل التفاصيل وهي مصطفة إلى جانب بعضها البعض.
كل من يصل إلى هناك، يعرف أن عليه أن يقصد قبور أهم شعراء إيران، فلا يضيع الشيرازيون ولا الإيرانيون القادمون من كل ناحية في البلاد طريق الوصول إلى مرقد حافظ الشيرازي، أو لسان الغيب كما يسمّونه، هو أشهر شعراء البلاد على الإطلاق والحاضر في كل بيت وفي أغلب المناسبات، وهو شاعر الغزل والعرفان والذي يتبادل الإيرانيون مع ديوانه أسرارهم حتى اليوم، فهم على قناعة بأنه يخبرهم بطالعهم، فيكفي أن يضمروا نية لفعل أمر ما في باطنهم، ليردّ عليهم بشعره، وبالقرب من مرقده يتزاحم الزوار وبيدهم ديوان حافظ، ولا يختلف أحد على بلاغته وفصاحته وتفسيره للعشق، وحتى من يحسبون على المتدينين في إيران يكنّون شعورا خاصا لحافظ.
وفي مكان قريب، لا ينسى أحد أن يزور مرقد سعدي الشيرازي أيضا، الشاعر والمتصوف من القرن السابع للهجرة، هناك يسمع الزائر صوت الموسيقى الفارسية عاليا ويتخللها صوت لمن يقرأ شعره، ويقول عنه الأدباء إنه متأثر كثيرا بالقرآن الكريم وباللغة العربية، ويقال كذلك إن ذاك المكان هو مسكن سعدي ذاته والذي كان يقطنه قبل سبعة قرون ويختلي فيه لينظم الشعر، وتحول اليوم إلى شبه مزار، وفيه حوض ماء اعتاد الإيرانيون قبل أن يجف أن يرموا قطعا نقدية بداخله، متمنين تحقق مكنوناتهم، لتختلط المعتقدات مجددا مع بعضها البعض حتى في هذه البقعة، التي يزورها رواد ومحبو الشعر والأدب الفارسي من المتدينين وغيرهم.
أما في أماكنها المفتوحة، فيستطيع زائر شيراز أن يلحظ فور وصوله إليها أنها منطقة جافة، حارة، صحراوية، وتتخللها بعض الأشجار في بقع محددة تكون ألطف في مناخها، وكأنها كانت على شكل واحات في القدم، كما يرى الأفق واسعا في قسم كبير منها دون أن تشوهه المباني العالية، لكن الغزو العمراني الحديث طاولها في جزء صغير وفي الجهة الثانية من المدينة.
ليل شيراز يختلف كذلك عن نهارها بالكامل، فمن ساعات الظهر حتى ما بعد العصر لا تختبر ازدحام السيارات ولا المارة، بل وتكاد تخلو صيفا في هذه الساعات، وما زال قاطنوها يحتفظون بطقس القيلولة واستراحة وسط النهار كما كانت تفعل طهران قبل عقد تقريبا، ويفضّل سكان شيراز الابتعاد عن الحر الذي يستمر فيها حتى وقت متأخر من الخريف، لكن الحياة تعود وتدبّ في المدينة الفارسية ليلا وحتى ساعات الفجر، وتختلف بهذا عن مدن إيرانية كثيرة.
في هذه الساعات، ترى سكانها في الساحات والميادين والحدائق هاربين من الحر، أما المشهد الذي يبدو طبيعيا في شيراز على عكس غالبية المدن الثانية فهو من نصيب نسائها الشابات والكبيرات في السن على حد سواء، اللواتي يجلسن ويتسامرن معا ويدخِّنّ "النارجيلة"، هذا المشهد غير مستغرب على الإطلاق في وقت ما زال الجدل يدور حول السماح للفتيات بتدخين النارجيلة في الأماكن العامة في العاصمة طهران من عدم ذلك، لكنه قد يكون في شيراز عادة وثقافة متوارثة، فتبدو السيدة وكأنها خارجة من منمنمة إيرانية لطالما رسمت السيدات والنارجيلة دون تحفظ.
وفي هذه المدينة التي اعتادت زيارة الغرباء عتب على المعنيين، إذ إن بعض أماكنها السياحية تفتقد لعناية أكبر. هذا ما يقوله البعض في شيراز، لكنهم يتراجعون عن ذلك فور إدراكهم أنهم يتحدثون لسائح أجنبي، تناقض آخر لا يعني إلا استماتة في الدفاع عن الهوية.
يتحفظون قليلا على زوارها من العرب بالذات، ممن يقصدونها غالبا لأغراض طبية ويزورون مناطقها الطبيعية لا التاريخية، فاللوم هنا يتعلق برغبة التعريف عن إرث يشكل جزءا من الهوية الإيرانية والفارسية على وجه الخصوص، وقد يدل في باطنه على الصراع التاريخي مع العرب، ومع ذلك فإن من في شيراز يعلمون أن هذه السياحة تجلب مردودا ماديا جيدا للمدينة، والتي تتأثر بالوضع الاقتصادي المرتبك كما في كل بقع إيران، وأصبح زوارها من بقية الإيرانيين يغيبون عنها في أغلب المواسم باستثناء عطلة عيد النوروز، وهذا يتعلق بالوضع المعيشي أيضا، لكن الشيرازيين أنفسهم يحرصون على عدم الغياب عن تلك الأماكن التي ترسم هويتهم.