شواهد من الوصايات متعددة الجنسيات على اليمن

11 فبراير 2019
يتغلغل النفوذ الإيراني في مناطق الحوثيين (محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -
في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، نظمت وزارة الخارجية الألمانية اجتماعاً لدعم جهود إحلال السلام في اليمن، لكنها لم تدعُ إليه الحكومة اليمنية أو أي طرف محلي آخر. أثارت الخطوة استياء الشرعية اليمنية ودفعت وزير الخارجية، خالد اليماني، إلى الحديث عن "انتهاك مؤسف لا يمكن تجاوزه". أما ألمانيا فبررت موقفها بالقول إن اجتماعاً "جمع الشركاء الدوليين والمانحين واللاعبين الأساسيين بهدف دعم جهود الأمم المتحدة، ولكي يتم اتخاذ خطوات إضافية تؤدي إلى عملية السلام".

يعكس هذا التجاهل للأطراف اليمنية، تحديداً الحكومة، تراجعاً على المستوى الدولي، كما المحلي في الاعتقاد بمركزية دورها في حرب تخاض بالوكالة بين أطراف عدة على الأراضي اليمنية، خصوصاً بعد ما حصل في مباحثات استوكهولهم وما تردد عن ضغوط سعودية وإماراتية مورست على الشرعية، تحت وطأة تداعيات جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، أفضت إلى قبولها باتفاق الحديدة الذي طرحه المبعوث الأممي مارتن غريفيث بالحد الأدنى من الاعتراض، لأن الرياض وأبو ظبي كانتا تريدان امتصاص الضغوط، ولو مؤقتاً. لكن ما حصل في ألمانيا أو السويد، وقبله في حالات كثيرة، يبقى نتاجاً لتراكمات على مدى سنوات تلت تدخل التحالف العربي في اليمن، والتي كان من نتيجتها تخلي الشرعية عن حصرية القرار السياسي والعسكري، المفترض أن يكون بيدها، ما وضع اليمن تدريجياً تحت الوصاية، على نحو غير مسبوق، رغم أن اليمنيين اعتادوا لعقود التدخلات في بلدهم، خصوصاً من الجارة السعودية.

ومنذ اللحظة الأولى لهذه الحرب، بدا أن الشرعية اليمنية مجرد متلقٍ لا أكثر. ولا يزال تصريح الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، ماثلاً في أذهان اليمنيين، بعدما اعترف في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنه لم يعلم مسبقاً بعملية "عاصفة الحزم". وعدم استشارة هادي في إعلان الحرب سرعان ما استتبع جعله آخر من يعلم بشأن معظم التحولات في اليمن خلال السنوات الماضية، فضلاً عن تحول حكومته إلى مجرد رهينة لدى السعودية والإمارات، يتم التحكم بها، ومن يتم توزيره ومن تتم إقالته ومتى، ومن يُسمح له بالتواجد في اليمن، تحديداً في المناطق المسيطر عليها من قبل السعودية والإمارات، ومن يمنع من دخول العاصمة المؤقتة عدن، حتى أن مسؤولي الشرعية باتوا يشكون حالهم علناً.

مثلاً، سبق لوزير الداخلية، أحمد الميسري، أن أقر بأنه لا يملك سلطة على السجون اليمنية في عدن. وبلغ به الأمر أن قال، في مايو/أيار 2018، إن الجنوب واقع تحت "احتلال غير معلن". لكن تبقى قمة المفارقة حين منعت الإمارات وزير الرياضة والشباب اليمني، نايف البكري، أخيراً، من دخول أراضيها من أجل حضور افتتاح بطولة كأس آسيا، التي كان المنتخب اليمني يشارك فيها، مع العلم أنها تمنعه أيضاً من دخول عدن. صمتت الحكومة اليمنية ولم تقل كلمة واحدة تدين فيها الواقعة المنافية لأبسط قواعد وأخلاقيات الاتحاد الدولي لكرة القدم.

استسلام الحكومة اليمنية إلى الإرادة السعودية والاماراتية وعدم الاعتراض إلا في حالات نادرة، على غرار ما حصل في سقطرى، أو بعد المحاولة الانقلابية على هادي في عدن من قبل حلفاء الإمارات المحليين، يقابله وضع لا يقل خطورة في المناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين، حيث يتغلغل النفوذ الإيراني السياسي والعسكري. ففي يناير/كانون الثاني الماضي، ذكر تقرير للأمم المتحدة أن إيران انتهكت الفقرة 14 من قرار مجلس الأمن رقم 2216 حول حظر نقل الأسلحة إلى اليمن، بامتناعها عن منع وصول صواريخ بالستية إلى الحوثيين أطلقت على السعودية. كما عرضت الولايات المتحدة، مرتين على الأقل، أسلحة إيرانية استخدمها الحوثيون في اليمن. أما في الشق السياسي، فإن الدعم الإيراني للحوثيين جلي. وتم التعبير عنه في المواقف الإيرانية العلنية الداعمة للحوثيين، وفي الزيارات التي تقوم بها وفود من جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) إلى طهران، أو إلى عواصم عربية حليفة لطهران، بما في ذلك بغداد وبيروت.

لكن شهادة رئيس الوزراء اليمني الراحل عبد الكريم الإرياني، الذي شغل أيضاً منصب المستشار السياسي للرئيس عبد ربه منصور هادي، في حوار مع صحيفة "26 سبتمبر" التابعة للجيش اليمني في العام 2014، تعد مركزية لفهم كيفية حضور إيران في قرار الحوثيين السياسي وتحكمها به. روى الإرياني، الذي كان مكلفاً بالتفاوض مع الحوثيين إبان الاعتصامات التي أقاموها في صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، والتي كانت الخطوة الأولى لاجتياح العاصمة اليمنية والانطلاق بعدها نحو محافظات أخرى، كيف أن أعضاء وفد "أنصار الله" كانوا "يستأذنون صعدة (مقر زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي) يمكن بالساعة الواحدة مرتين". لكن بعد يومين من فشل المفاوضات، يقول الإرياني "في يوم السبت ظهراً جاء إلى صنعاء الوسيط العماني، وهو يذهب ويجيء للوساطة بين الحكومة اليمنية والحكومة الإيرانية، وينقل رسائل لرئيس الجمهورية وهادي ينقل عبره رسائل"، قبل أن يضيف "هل تصدق أن النص الذي تفاوضنا عليه يوم الخميس الساعة العاشرة والنصف جاء به الوسيط العماني (السبت) دون أن يتغير منه حرف واحد. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أننا تفاوضنا في صنعاء، وقُبِل النص في صعدة وأرسل إلى طهران ثم ذهب إلى مسقط ومن مسقط عاد إلى صنعاء".

على هذه الحالة يبدو اليمن وقد صار مُتاحاً لكل تدخل ووصاية، حتى بات السؤال اليوم يتركز حول ما إذا كان الوضع مرشحاً لمزيد من التدخلات، خصوصاً بعد اعتماد مجلس الأمن الدولي القرارين 2451 (نشر مراقبين دوليين في الحديدة) و2452 (إنشاء بعثة سياسية لدعم اتفاق الحديدة) من دون استبعاد احتمال توسيع مهامها في وقت لاحق. وتقول الصحافية ثريا دماج إن "الأزمة والحرب اليمنية واضحة وضوح الشمس، وما كان لها أن تذهب إلى هذا المآل لولا تعنت قوى الحرب الداخلية واستماتتها في التخندق وراء مواقف أحادية غير مفوضة من الإرادة الشعبية صاحبة الحق الحصري في تقرير مصير البلد ومستقبله". وتعتبر دماج، عضو نقابة الصحافيين اليمنيين، أن "من المهم الإشارة إلى أن هذا التكالب الدولي على تقاسم الوطن الممزق المثخن بالمآسي، كان نتاجاً طبيعياً للتماهي مع الثورة المضادة والانقلاب على مخرجات الحوار الوطني الذي قاد إلى انكشاف البلد على مطامع إقليمية ودولية لا حصر لها".

وتتوقف دماج عند ما جرى في الأمم المتحدة بعد اعتماد القرارين. وتقول "في اعتقادي أن الأمم المتحدة، أرادت تحويل الاتفاقات والتفاهمات غير الموقعة في الأساس من قبل الأطراف المتشاورة في السويد، إلى أمر واقع، ولهذا ذهبت لاعتمادها بقرارين متعاقبين في غضون بضعة أيام". وتضيف "لا أعتقد أني شهدت من قبل قرارات دولية تصادق على رؤوس أقلام لما يفترض أن تكون تسويات قابلة للاستدامة ومتسقة مع ميثاق الأمم المتحدة القائم على احترام سيادة دولة عضو في المنظمة، وتجسيد إرادة الأمة التي تمثلها". وتشير إلى أن "القراءة العابرة للقرار الدولي الأخير، تُفصح عن نسخة يمنية لسلطة ووصاية القوى الكبرى، بعتادها وعديدها"، متوقعة تضاعف هذه الوصاية "مع الاستحواذ على مداخيل الموانئ التجارية والمدن التي توجد فيها مرافئ على البحر الأحمر". وتعتبر أنه "لا يزال لدى الأطراف فرصة لتفادي هذا السيناريو، بإبداء حسن النوايا حيال الداخل أولاً والعودة إلى الحوار المسؤول الذي يؤسس لشراكة واسعة ودولة جامعة تحتكر السلاح والقوة".

من جهته، يعتبر الباحث اليمني المقيم في فرنسا، مصطفى الجبزي، أن "الحرب الدائرة في اليمن هي حرب في منطقة جغرافية هامة، وتؤثر على الأمن الإقليمي نتيجة للحروب بالوكالة وسياسة توزيع المنطقة كمربعات نفوذ للقوى الإقليمية الصاعدة والمتنافسة". ويشير إلى أن ما يجري "مهم أيضاً للأمن الدولي، لأن استمرار الحرب يسمح أكثر بتمدد الإرهاب وإيواء البلد لعناصر متطرفة والتهديد المباشر للملاحة الدولية عبر استهداف السفن أو تلغيم الممر المائي، ما قد يؤدي إلى إغلاق مضيق باب المندب كما تلوح إيران مراراً". كما أن العلاقة المتوترة بين إيران وأميركا تنعكس سلباً على الاستقرار في اليمن، خصوصاً أن إيران ضالعة في هذه الحرب بشكل أو آخر. ويلفت إلى أن المناخ الدولي مشحون بمنافسة تجارية واستراتيجية بين القوى الدولية، ومنها الصين وأميركا، ويقع اليمن ضمن أراضي هذا التنافس بين هذه الدول إذا لاحظنا الحضور العسكري والاقتصادي لهذين العملاقين في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويذكّر الجبزي أن اليمن كان تاريخياً حديقة خلفية للدولة الأقوى اقتصادياً في المنطقة، وهي السعودية. لكن أحداث العام 2011 أتاحت مجالاً للمجتمع الدولي أن يأخذ زمام المبادرة، ويعيد ترتيب الأوضاع بما ينسجم ومصالحه، جاعلاً المملكة في مستوى نفوذ ثانوي رغم أنها كانت الممول الأكبر للعملية الانتقالية في اليمن. ويشير إلى أنه "بعد أن قاد التدخل الأممي إلى فشل العملية الانتقالية لغياب ضمانات واستعمال الروادع المناسبة، تعاظمت تهديدات الأمن القومي السعودي في اليمن، فأخذت السعودية زمام المبادرة ولكن عسكرياً هذه المرة". وبرأيه فقد "ظل المجتمع الدولي ينتظر نتائج التدخل بمساندة ظاهرية ولكن بإعاقة فعلية"، مشيراً إلى أن "اتفاق السويد بشأن الحديدة أدى إلى عودة المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة إلى الساحة اليمنية بزخم أكبر، مستفيداً من الورطة السعودية دبلوماسياً بسبب مقتل خاشقجي واستعدادها لتقديم تنازلات في ملفات إقليمية مقابل أن تذهب عنها الأنظار مرحلياً. وكانت الحديدة من هذه التنازلات".

ويتوقف الباحث اليمني عند حقيقة أن "حالة المراوحة في الملف اليمني تغري دولاً كثيرة كي تحاول التدخل، ومنها ألمانيا، والتي بسبب خلافات دبلوماسية عميقة مع السعودية ونتيجة لتقاربها الاقتصادي مع إيران فإنها لا تمانع في استخدام الملف اليمني للضغط على السعودية وتصفية حسابات خاصة عبر الملف اليمني". ويعرب الجبزي عن اعتقاده بأن "مبادرة ألمانيا في الملف اليمني كانت خارج السياق الأممي، ومحاولة للفت انتباه القوى المعنية والمتدخلة بالشأن اليمني، ومنها أميركا تحت إدارة دونالد ترامب التي ليست على وئام مع ألمانيا، وبريطانيا التي تحتكر الملف اليمني باعتبارها عضواً دائماً في الأمم المتحدة وتبادر في صياغة القرارات. بل إن اتفاق السويد هو ثمرة خالصة للجهود الدبلوماسية البريطانية". ويعتبر أن "السعودية تحرص حالياً على إنجاح اتفاق السويد لأنه يرمم صورتها دولياً ويمكن أن يحقق مكسبا للحكومة اليمنية بكلفة أقل". وعلى الرغم من أن الاتفاق يدفع عملياً "إلى تمكين الأمم المتحدة من الشأن اليمني وتقييد هامش المناورة العسكرية للتحالف وللحكومة الشرعية"، فإن الباحث اليمني يشير إلى أن هذا الملف هو واحد ضمن ملفات يمنية شائكة عدة، متوقعاً تعنت الحوثيين ورفضهم تنفيذ الاتفاق، ما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي وبما يخفف الحرج عن التحالف. ووفقاً للجبزي فإن "للسعودية درسا تاريخيا في التعامل مع تدخل الأمم المتحدة في اليمن منذ الستينيات (القرن الماضي)، ويبدو أنها تراهن على عوامل كثيرة ستعيد نفوذها في اليمن، حتى وإن وضعت اليمن تحت الوصاية الأممية، وهو أمر غير وارد في المستقبل القريب. ومن هذه العوامل أن مرحلة إعادة الإعمار لن يتكلف بها أحد بسخاء دونها، وعندها سيحال الملف إليها مجدداً".

من جهته يقول مجدي عقبة، وهو صحافي يمني مقيم في صنعاء ويعمل في صحيفة "الثورة" الرسمية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، "لكي نكون منصفين، فإن الوصاية الدولية على اليمن ليست وليدة اللحظة، فهي موجودة منذ أكثر من خمسة عقود، خصوصاً الوصاية السعودية، فقد استطاعت السعودية إجهاض ثورة 26 سبتمبر/أيلول (1962)، وعملت على دعم شخصيات موالية لها، من زعماء قبائل وقادة عسكريين وغيرهم من الشخصيات المؤثرة في البلد". ويضيف "ظل هذا الوضع قائماً إلى أن جاءت ثورة الربيع العربي ضد نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، حيث نجحت السعودية في إجهاض الثورة مرة أخرى. وكانت مبادرة مجلس التعاون الخليجي، التي تم توقيعها في الرياض، بداية الوصاية السعودية المباشرة على اليمن، لا سيما بعد تعطيل الدستور جزئياً وتقييد دور البرلمان وتدمير الجيش بذريعة هيكلته وجعل المبادرة الخليجية هي المرجعية العليا في البلد، وبعدها طلب هادي من مجلس الأمن إدخال اليمن ضمن الفصل السابع". وبالنسبة إليه "كان ذلك بداية الوصاية الدولية المباشرة، ثم تطورت الأحداث بشكل دراماتيكي واستطاعت حركة أنصار الله السيطرة على صنعاء بعد مواجهات مع قوات هادي وعلي محسن الأحمر. وبعد سقوط صنعاء وهروب هادي والأحمر أحست السعودية بخطورة الوضع، فأنشأت تحالفاً من 17 دولة وشنت حرباً مباشرة على الحوثيين بدعم أميركي بريطاني مباشر، في محاولة منها لإعادة أدواتها إلى صنعاء"، على حد وصفه. ويضيف "لقد اعتقدت السعودية أنها ستحسم الحرب في غضون أيام، وربما أسابيع، وهذا ما لم يحدث بعد مرور أربع سنوات من الحرب"، لكنه يعتبر أن "هذا لا يعني أن جماعة الحوثي ليست مسؤولة عن الوضع الحالي، إلى جانب بقية النخب السياسية اليمنية"، لافتاً إلى تحول اليمن إلى ساحة تصفية لصراع دولي وإقليمي.

المساهمون