شواهد على تعهير المعنى

29 يناير 2015
+ الخط -
تعيد معاجم اللغة العربية كلمة تعهير إلى الفعل الماضي (عهَّرَ) مصدراً لها، وتصرفه على النحو التالي: عهَّرَ يُعهِّرُ، تعهيراً، فهو مُعَهِّر، والمفعول مُعهَّر. أما من حيث المعنى، فإن عبارة عهَّرَ الشيء تعني نسبه إلى الفجور، أو جعله عاراً.
تلك ليست مقدمة درس في اللغة العربية، بل محاولة اعتذار مسبق عن اضطراري لاستخدام مفردة، لم أعثر على رديف آخر لها، أو بديل يحفظ السمع من الخدش، فوجدتني أتورط في تكرارها، وشرحها، مرات، ومرات، كما ترون، قبل أن أصل إلى ما أريد قوله.
وما أريد قوله يرجع، في جذوره، إلى نحو نصف قرن، أو أكثر، حين كانت الأحزاب والتيارات القومية واليسارية العربية، الناشئة حديثاً، تتبنى نظريات اجتماعية، وبرامج سياسية، مثيرة للأحلام، فيصدقها الناس، ويتدفقون إلى الشوارع المؤدية، غالباً، إلى السجون، وأحياناً إلى أعواد المشانق، لاعتقادهم بأنهم يصنعون غداً مشرقاً لهم، ولأبنائهم من بعدهم.
آنذاك، اكتشف الشارع العربي سريعاً، وإن بثمن باهظ، كذب وإخفاق الشعارات الكبرى التي كانت تعد بتحرير فلسطين، وقذف اليهود في البحر ليأكلهم السمك، ثم تقبّل على مضض، ربما، أول تزييف معاصر للمعنى، ابتدعه، الصحافي محمد حسنين هيكل، بإطلاقه اسم النكسة على الهزيمة العسكرية المدوية عام 1967، بنتائجها الكارثية، المتمثلة باحتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهضبة الجولان، وشبه جزيرة سيناء، في أقل من ستة أيام.
لكن تزييفاً آخر للمعنى، لا يقل خطراً، عن تزييف معنى الهزيمة، سيظل يفعل فعله في مبنى الخطاب السياسي العربي، منذئذ، إلى يومنا هذا، وبصورة عهَّرت، نعم عهّرت، أسمى الشعارات الإنسانية والاجتماعية والسياسية، عبر الهتاف بها، صباح مساء، في مقابل تكريس ما يناقضها، ووصولاً إلى جعل كل مَن يتبناها موضع سخرية وتهكّم، حتى لو كان صادقاً.
ولعلّ المثال الأبرز، على تعهير المعنى، في تاريخ العرب المعاصر، قدّمه، بجدارة، حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد وصوله إلى حكم اثنتين من أكبر الدول العربية وأهمها، في ستينيات القرن الماضي، حيث تبنى فرعاه اللذان حكما سورية والعراق شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، على مدى عقودٍ، تميّزت، أكثر ما تميزت، بتأجيج الصراع القطري بين بلديهما، ومع بلدان الجوار العربي الأخرى، كما تميزت بمصادرة الحريات الأساسية، وباستيلاء الأسر الحاكمة، وحلفائها، في الداخل والخارج، على المقدرات والثروات الوطنية، تاركة ملايين المواطنين يختبرون معنى الحرية في عتمة الزنازين، أو يكابدون الاشتراكية عبر البحث الشاق عن لقمة الخبز.
المقاومة أيضاً، وتابعتها الممانعة، مفردتان تعرضتا للتعهير، عبر التشدّق بهما شعاراً لنظام الحكم السوري الذي وفّر لإسرائيل حدوداً آمنة بنسبة مئة في المئة، طوال أربعين عاماً، كان يروج خلالها مقولة التوازن الاستراتيجي، حتى تعهرت، هي الأخرى، قبل سنين طويلة، من عار اختراع واستخدام البراميل المتفجرة وغاز السارين، في غوطة دمشق، وحارات حلب.
مع مرور الزمن، صار الحديث عن "الأمة العربية الواحدة" أو عن الحرية، أو عن الاشتراكية أو عن المقاومة والممانعة، أشبه بنكتة سمجة، توحي بالفجور. وما أن انبثقت ثورات الربيع العربي، عام 2011، حتى شاهدنا رجل الأمن في "دولة البعث" الوحيدة الباقية على قيد الحياة، يدوس رؤوس مواطنية بحذائه العسكري الثقيل، وهو يتساءل غاضباً، ومتعجباً: "بدكن حرية؟!"
لاحقاً، ذهبت الثورات المضادة إلى مدى أبعد في تعهير المعنى، فتمكنت من تغييب مصطلحات أيام البدايات، وأبرزها الشبيحة (في سورية) والبلطجية (في مصر) والبلاطجة (في اليمن) لتُحل محلها تسمياتٍ وألقاب جديدة، صارت تقدم هؤلاء باعتبارهم رجال الدفاع الوطني، والأهالي، والمواطنين الشرفاء، بينما تصنّف المتظاهرين الباحثين عن كرامتهم بالإرهابيين.
عود على بدء؛ تقول اللغة العربية في وصف ما يفعلون؛ عهَّرَ يُعهِّرُ، تعهيراً، فهو مُعَهِّر، وهم مُعهَّرون.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني