شهيد التلفزيون!

04 يوليو 2018
+ الخط -
توقف عن لوم أبيه حين أصبح أباً.

كان من قبل يضيق ذرعاً بإفراط أبيه في ذكر تضحياته من أجل أولاده بمناسبة وبدون مناسبة، ثم بتذكير أمهم الدائم لهم بتلك التضحيات بعد رحيل الأب المفاجئ. لم يكن يشارك أمه وإخوته في رأيه أن أباه قد جنى عليهم بأحلامه العريضة وخطواته الانفعالية المتسرعة، التي قادته إلى تلك النهاية التي كان لوقت طويل يراها انتحارية، لكنه الآن لا يكف عن تذكر تلك التضحيات وتبجيلها والحزن على تلك النهاية التي باتت تثير رهبته، منذ أن بدأ يكابد أهوال الحياة من أجل إطعام زوجته وولديه.

أنجب أبوه سبعة أبناء كان أكبرهم. لم يكن أبوه متعلماً، ولذلك حرص على أن يعلمهم جميعاً. سيرة التعليم وعلاقة أسرتهم به، كانت تستدعي على الدوام أطرف حكاية تمتلكها الأسرة في مخزونها العاطفي، وأكثر حكاية تتباهى بها على الملأ، حكاية أن الأب قرر أن يكمل تعليمه الذي كان قد انقطع في طفولته، وأن يأخذ الشهادة الابتدائية في نفس السنة التي حصل ابنه الأكبر عليها، ثم يواصل تعليمه حتى الحصول على الشهادة الإعدادية، ليشارك أبناءه الأصغر بعد ذلك في دراسة مناهجهم، ويساعدهم فيها في الوقت ذاته، متفوقاً عليهم في إدمان قراءة الصحف والمجلات وسلاسل الكتب، بكل ما يصحب ذلك الكفاح من مباهاة عليهم بما حصّله من معلومات، وتقطيم لكسلهم وزهدهم في المعرفة التي أتتهم مبكرة ودون تضحيات.

تخرج من الأبناء اثنان بدبلومات هزيلة لزوم تمشية الحال في الحياة الدنيا، وكان الثالث الأصغر سناً على وشك اللحاق بهما في نادي الشهادات المتوسطة، أو الشهادات "الهفق" كما كان الأب يصفها في لحظات الغضب، في حين تخرج أربعة بشهادات عالية، قبل أن يتضح أنها ليست عالية فعلاً، لأنها لم تجلب وظيفة ثابتة سوى للبنت الوسطى، التي تخرجت من كلية التربية وعملت مدرسة رياضيات لكنها لم تتزوج، وكَسرة نِفسها بسبب الزنّ على الآذان والكلام الذي يسمّ البدن، سدّت نِفسها عن أداء الدروس الخصوصية التي لا يعيش المدرس إلا بها، فرفضت كل ما كان يأتيها من عروض، واكتفت بالإخلاص لوظيفتها اليومية هزيلة العائد، والعودة إلى البيت للتقوقع فيه في غرفتها التي اشترت فيها تلفزيوناً صغيراً تنفرد فيه بالمسلسلات العربية والأفلام الأجنبية التي أدمنتها على عكس إخوتها، فزادت مباعدتها عن سائر أفراد البيت. أما أختها الكبرى التي تخرجت من كلية الآداب في جامعة إقليمية "كتيانة"، لم تجد عملاً، لكنها وجدت العَدَل، وتزوجت بمدرس ثانوي غطى معشره الحلو على مظهره المكعبر، وأنجبت منه على التوالي ثلاثة أبناء، أضافوا إلى حياة الأسرة دراما منعشة بعد رتابة كئيبة لازمتها لسنوات.


كان الأب قد خرج على المعاش في خريف 2006 بعد أن بلغ سن الستين، ومعاشه الذي تجاوز الستمائة جنيه بقليل، كان كافياً للإنفاق على نفسه وزوجته وابنه الطالب وأخته الصغيرة المخطوبة، بعد أن فارقه الباقون وأصبح لهم بيوتهم ودنياهم، وتكفلت البنت الوسطى بمصاريفها مع مساعدة هزيلة في مصاريف البيت. وفي لحظة أمل غير محسوب، قرر الأب شراء قطعة أرض لأبنائه في أطراف مدينته الريفية الصغيرة ، وقرر أن يبدأ في بناء بيت عليها، على أمل أن ينفعهم بعد أن يموت، ولعلهم إن فشل في إكماله، يكملون بناءه يوماً ما، فيجمعهم بيت واحد بعد أن يتكل على الله.

وفي سبيل شراء الأرض وبناء الدور الأول من منزل الأحلام، طارت مكافأة نهاية الخدمة ولحقت بها تحويشة العمر الهزيلة، وذهبَ ذهبُ زوجته، مصحوباً بعشرة آلاف جنيه، كان قد استدانها من بعض الأصدقاء والأقارب وأضيف إلى كل ذلك 15 ألف جنيه أخذها سلفة من بنك ناصر، ليبقى له من معاشه بعد سداد قسط السلفة الشهري حوالي 300 جنيه فقط، فيضطر في خطوة مزلزلة، للسماح لزوجته ذات الخمسة والخمسين عاماً بأن تخرج صباح كل يوم، للعمل في محل ملابس في أحد أسواق المدينة الصغيرة، يملكه أحد أفراد عائلتها، لتساعده على الحياة، متحملة في ذلك كلام الناس وشماتة ذوي القربى، في حين اضطر لقبول وظيفة كاشير في مطعم مشويات، يملكه قريب له في مدينة طنطا القريبة، يذهب في الصباح إليها كأنه ذاهب إلى مهمة سرية، ويعود في آخر اليوم منهكاً، لا يعوض شقاءه سوى تشبثه بحلم تسديد ديونه، الذي استعان عليه ببركات السيد البدوي، آملاً في الانتقال بعدها إلى حلم آخر، هو بناء الدور الثاني إن عاش وكان له عمر.

في اللحظة غير المناسبة انهار الحُلمان، بفعل فضيحة كادت تودي بحياة زوج البنت الكبرى، الذي دخل في علاقة فاحشة مع تلميذة فائرة قبل الأوان، فأجبره أهلها الباطشون على الزواج بها ستراً على الجنين القادم، ولأن فلوس الدروس كانت قد بدأت تجري في يده، فقد عرض على زوجته البقاء مع ضرتها الجديدة إلى حين توفير منزل مستقل لها بعد تحسن الأحوال، لكنها لعنت خاش أهله، وهددته في لحظة غضب بقطع عضوه الذكري الذي لم يعد فعالاً منذ أنجبت له طفلهما الثالث. وهي مسألة لم تكن إثارتها جديدة، لولا أنها قررت أن تشاركها مع الجيران عبر البلكونة، فانهال عليها بضرب مبرح. تركت له البيت على أثرها آخذة عيالها معها، لتزاحم بهم إخوتها في بيت أبيها، فأصبح الأحفاد كثيرو الحركة مصدر شقاء بعد أن كانوا منبع بهجة، وباتت مع أولادها مسؤولة من أبيها، الذي رفض التذلل لطليقها، لكنه سمح لإخوتها بضربه علقة معتبرة، صورها الأخ الأصغر بالفيديو شفاء لغليل أخته.

تفاءل الأب خيراً حين أكرمه الله بزواج البنت الوسطى "المعصلجة" من زميل لها. أخذها بشنطة هدومها وسافرا إلى الخليج، كان ازدحام البيت ومشاركة أختها لها في غرفتها، قد أتلف أعصابها فسارعت باتخاذ القرار قبل أن تفقد ما تبقى من عقلها، وتجاوزت كل ما أبدته الأم من ملاحظات على عائلة العريس وصلعته ورائحة عرقه المتفردة. وبعد رحيلها لم يتبق للأب سوى هم المطلقة والمخطوبة والطالب آخر العنقود، بعد أن توقف بناء البيت، لتصبح خوازيقه الراشقة في الأرض كناية سافرة عن حاله الكرب، لم يكن يغضب حين يحولها ابنه الأكبر إلى مثار للدعابة في لحظات الصفاء النادرة التي تجمع العائلة.

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد اجتمعت عليه ثلاث مصائب: أتعاب المحامي الذي وكّله للدفاع عن ابنته التي قدم طليقها الراغب في الانتقام بلاغاً فيها يتهمها بمحاولة إجهاض زوجته، والذي اقترح بدوره رفع قضية على الطليق للمطالبة بحقوق ابنته وأحفاده، للضغط على الطليق اللعين. ومصاريف تجهيز المخطوبة التي حرّك زواج أختها غضب خطيبها وأهله، بسبب تأخره في الالتزام بما قطعه من مواعيد، فبدأوا يلوحون بفسخ الخطوبة إن لم يلتزم بوعوده. ومصاريف المعهد العالي للسياحة والفنادق الذي ألحق به ابنه في القاهرة والتي ارتفعت فجأة إلى ثلاثة آلاف جنيه، أصبح مطلوباً منه أن يدفع ألفين منها خلال أسبوع، وإلا تم وقف ابنه عن الدراسة تمهيداً لفصله.

ولأنه كان قد استنفد سبل السّلَف المتاحة في محيطه القريب، قرر في لحظة يأس أن يلجأ إلى شقيق زوجته الأكبر، الذي كان يطيق العمى ولا يطيقه، منذ أن وقف ضد قصة حبهما قديماً، وحذّر أخته من الاقتران بموظف تافه ليس لديه أرض ولا عزوة، وليس لديه سوى لسان حلو سيجني عليهما في النهاية. تناسى الأب كل ذكرياته المريرة، وسافر إلى نسيبه الكريه في الإسكندرية، حيث يقيم في شقة فاخرة تطل على بحر سان ستيفانو، بعد أن مهدت زوجته في مكالمة تليفونية طويلة للطلب العاجل، وحلفت له أن الأخ وعدها بتلبية طلبها ورفع رأسها، لكنه بعد أن خبط المشوار الثقيل على قلبه، فوجئ بأخيها يعطيه نصف المبلغ الموعود، ويطلب منه أن يعود إليه بعد شهرين من أجل بقية المبلغ، ويعطيه بالإضافة إلى ذلك محاضرة لزجة في أهمية التخطيط للمستقبل وعيب الخلفة الكثيرة لمن لا يقدر على مسؤولياتها.


حين بكت زوجته فور علمها بما حدث، وهوَت لتقبل قدميه أسفاً على حقارة أخيها، احتضنها وقبل رأسها ويديها وهمّ بتقبيل قدميها، معتذراً عن وضعه لها في هذا الموقف السخيف، لتنهمر الدموع من عيون الأبناء والأحفاد، وينخرط الكل في حضن جماعي، بدأ بالبكاء وانتهى بضحك عارم حين أطلق أحد الأحفاد قنبلة لا إرادية بددت كآبة اللحظة، لكن الأب أثار قلق الجميع، حين تعشى بنفس مفتوحة، ولاطفهم طويلاً قبل نومهم، وأطال في صلاته، لتقضي الزوجة ليلها كله في تفقد أنفاسه حين ينقطع شخيره، وحين استمر هدوءه في الأيام التالية، واصل الجميع الاطمئنان عليه في الرايحة والجاية، خوفاً من أن يطق له عرق من فرط الأسى، لكنه استمر في صموده الهادئ بشكل أذهلهم، ولم يفهموا سره إلا بعد أن اكتشفوا أنه أرسل خطاباً بالبريد المسجل المستعجل إلى برنامج تلفزيوني كان قد اشتهر بفقرة (الحالات الإنسانية) التي يوزع فيها المساعدات على مستحقيها من سائر محافظات مصر.

حكى الأب في خطابه قصته بالتفصيل، مستخدماً كل ما منحته له سنوات القراءة من مخزون في المفردات والتعبيرات البلاغية، ليكتب عبارات درامية حارة كان لها مفعول السحر على المذيع الشهير الذي قرأ بعضها على الهواء بتأثر، لكنه أعجب بشكل خاص بعبارة (مأساتي أنني أحب أولادي فلا تجعلوا ذلك الحب جريمتي) والتي يبدو أنها أعجبت الأب نفسه وهو يكتبها، فكررها في مطلع الخطاب ونهايته، لكن ما أعجب المذيع أكثر كان قصة حصول الأب على الابتدائية مع ابنه الأكبر، وتفاصيل تعليمه لنفسه ولأبنائه وكفاحه من أجل ذلك، لكن المذيع للأسف أعجب بذلك أكثر من اللازم، فتجاهل الجزء الذي ناشد الأب فيه أسرة البرنامج أن تحافظ على سرية اسمه "حرصاً على صورتي بين أهلي في البلد وأصدقائي خاصة وبعض الأقارب عقارب كما لا يخفى على سيادتكم"، ليقرأ المذيع ذلك الجزء ثم ينظر إلى الكاميرا وقد كسا وجهه التأثر، وهو يلوم الأب على ما كتبه، طالباً منه ألا يخجل من كفاحه، لأن عليه أن يفخر بنفسه، فهو بطل حقيقي في زمن لم يعد فيه أبطال، ولذلك سيقرأ اسمه وعنوانه على الهواء، داعياً لتكريمه على المستوى الرسمي والشعبي، قبل أن يتوجه فريق البرنامج إليه لزيارته في بلدته وعرض اللقاء الذي سيتم تسجيله معه في حلقة قادمة.

في الحلقة التالية لم يعرض البرنامج شيئاً عن الأب، لكي لا يعرف المشاهدون أن مذيع البرنامج تسبب في قتله، بعد أن أصابته أزمة قلبية حادة وهو يشاهد اسمه مذاعاً على الهواء في برنامج يعرف أن أغلب أهله وزملائه يشاهدونه، ومع أن الأسرة لم يكن لديها رغبة في الشكوى لأحد مما فعله مقدم البرنامج، فقد تسبب هو في إثارة غضب الأسرة، حين أرسل مع أحد العاملين ظرفاً به خمسة آلاف جنيه، "هدية من أسرة البرنامج"، لينجو حامل الظرف بفضل الجيران من علقة ساخنة، ويتوجه الابن الأصغر إلى مقر صحيفة معارضة في القاهرة، فيحكي لأحد صحافييها قصة أسرته مع المذيع الشهير، لتنشر الصحيفة الموضوع مزوداً بالتوابل التي تذم الزمان الوغد الساحق للفقراء، ومصحوباً بصورة الأب التي نشر إلى جوارها عنوان يصفه بـ (شهيد التلفزيون!)، وهو لقب تجاهلت الأسرة التباسه الذي زاد بفعل علامة التعجب، حتى ذكره خال الأولاد باستنكار بدا أنه لا يخلو من السخرية، فكان ذلك سبباً في صفعة تلقاها من الصغير الأهوج، قاطع بعدها أخته إلى الأبد.

لم يكن أحد في الأسرة ليتصور أن ذلك الموضوع الذي نشرته الصحيفة متوسطة الانتشار، سيحل كافة مشاكلها المادية، وأنه سيحضر مذيع البرنامج على ملا وجهه إلى بلدتهم، حاملاً تبرعات من مشاهدي البرنامج، تكفي لإكمال جهاز المخطوبة وتأمين مصاريف الطالب حتى تخرجه، بل وإكمال بناء الدورين الأول والثاني من البيت الحلم، وتحقيق حلم الأم في زيارة الحبيب النبي، مقابل أن تظهر الأسرة في حلقة من برنامجه للحديث عن كفاح الأب وبطولاته، والحديث أيضاً بشكل مفصل عن صحته المتدهورة وقلبه العليل الذي لم يحتمل فرحة حل مشاكله في البرنامج، الذي كان يدمن الفرجة عليه ويدعو لمقدمه بالصحة والستر، ولم تكن الأسرة برغم كل احتقارها للبرنامج ومقدمه، لتُضيع فرصة مثل تلك الحلقة التي ختمها المذيع بعينين مغرورقتين بالدموع، وهو يشير إلى صورة الأب المعلقة على الجدار مردّداً عبارته الخالدة: "مأساتي أنني أحب أولادي فلا تجعلوا ذلك الحب جريمتي".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.