لم يستفق أهالي مدينة دوما في غوطة دمشق بعدُ من وقع المجزرة التي ارتكبتها طائرات النظام السوري قبل أيام، في 16 أغسطس/ آب الجاري، وقد استهدفت السوق الشعبي في المدينة المحاصرة بالصواريخ، مخلّفة 114 قتيلاً و550 جريحاً. أكثر هؤلاء الضحايا هم من المارة والباعة المتجولين في السوق.
على الأثر، هرع الأطباء والمسعفون والمتطوعون وعناصر الدفاع المدني لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإسعاف الجرحى، في أسوأ كارثة حلت بمنطقتهم بعد مجزرة الكيماوي التي استهدفتهم قبل سنتَين. واليوم، يروي عدد من الشهود ما جرى في ذلك اليوم الأليم.
يخبر حيان أنه "لنصف ساعة، تجوّلت في السوق. كان الناس أكثر عدداً من الأطعمة المعروضة على العربات. هناك، كان الأطفال كثيرين. اشتريت ثلاثة أكواز ذرة، ومضيت عائداً إلى البيت. رحت أفكّر بأنني سأشويها عند المساء، فالجو حار على الشواء في وقت الظهيرة. ما إن ابتعدت عن السوق أمتاراً عدّة، حتى قذفني ضغط انفجار ضخم، فاصطدمت بالحائط. لدقائق، لم أعد أسمع شيئاً. بعدها، علا الصراخ والعويل. استجمعت قواي ونهضت، وتأكدت من أنني لم أصب. لم أستطع التحرّك بسهولة، كان الغبار في كل مكان. أمامي، كان رجل يجرّ نفسه بساق واحدة، بعدما أصيبت ساقه الأخرى. أمسكت به من كتفه ورحت أجره بعيداً عن المكان. ساعدني شاب آخر على الطريق حتى وصلت إلى نقطة صحية. سلمته للإسعاف، لأستلقي على الأرض وقد خارت قواي. حينها فقط لاحظت ثلاثة جروح في جسدي، لم أشعر بها في البداية".
أما باسل وهو أحد أطباء مشفى دوما، فيروي أنه "بعد الضربة الأولى، وصلت مسرعاً إلى المشفى. كان الوضع كارثياً. أكثر الجرحى كانوا على الأرض. كل واحد منهم، كان يحاول استجماع قواه ليرفع يده أو يئنّ طلباً للمساعدة. زملائي وأنا كنا نصارع حتى لا نبلغ حالة عجز. عددنا وإمكانياتنا كانت أقل بكثير مما نحتاجه لإنقاذ الناس من هذه المصيبة". يضيف: "يردنا نبأ الضربة الثانية، ويُطلب منا إخلاء الجرحى قبل وصول مصابين جدد. وتأتي الثالثة، فتكثر الإصابات ونفقد مزيداً من الأرواح، وتفرغ البرادات من أكياس الدم، وتنفذ محاليل المصل وكذلك الأدوات الجراحية المعقمة. حينها، شعرنا بأن الدنيا انتهت".
ويتابع باسل: "كنا نعمل تحت ضغط كبير. كل جريح كان ينظر إليك ويأمل أن تنقذه. لم أكن أفرغ من أحدهم، حتى يناديني آخر: أرجوك لا تنسى أنني أمانة برقبتك. لكن سرعان ما يمسك بي جريح آخر يتمدّد بجانبه، قائلاً: والله أتيت قبله، من الضربة الأولى. من ثم، يناداني أحد زملائي. ابن عمه مات، وهو لم يستطع إعلان وفاته". يضيف: "ما أعاننا حقاً على الاستمرار واستنهض عزيمتنا في تلك اللحظات، هو توافد الأطباء من جميع أنحاء الغوطة من مختلف الاختصاصات، بالإضافة إلى مسعفي الهلال الأحمر. هم كانوا في الحقيقة دافعاً حقيقياً لنا للاستمرار في كل لحظة".
اقرأ أيضاً: يوم أصبحت سورية خلفي
وفي اليوم التالي للمجزرة، انشغل أهالي المدينة بضحايا المجزرة. منهم من هبّ لرعاية الجرحى والمصابين، ومنهم من شارك في مراسم الدفن الجماعية. يخبر أحمد وهو أحد المشاركين في تلك المراسم، أن "الآليات قامت بحفر قبر جماعي كبير، وصففنا عشرات الشهداء بجانب بعضهم بعضاً في القبر الكبير. منهم من لفّ بأغطية ومنهم من لف بالبياض. لم يكن من مجال لتكفينهم جميعاً. أما ذووهم، فتجمهروا حول القبر الكبير، قرأوا الفاتحة والقرآن وصرخوا ونادوا الله كثيراً. في هذه اللحظات، يفضّل المرء لو أنه مات معهم، على أن يرى ابنه يُقتل - أو زوجته - في سوق ويُدفن بهذه الطريقة".
ويشير هنا الناشط الإعلامي أكرم أبو الفوز إلى أن "المساجد نادت خمس مرات للصلاة ومئة مرة للتبرع بالدم. كان ذلك أكثر يوم أرى فيه سيارات في الشوارع. طريقها واحد: إما ذاهبة إلى الدفن أو عائدة منه". يضيف: "بعد الضربة الأولى، انتابني خوف شديد أن يأتيني خبر استشهاد أحد أحبتي. وحدث ما خفت منه.. أخ ومن ثم جار وصديق".
وينقل أبو الفوز عن أحد الأطباء: "جاء أب يحمل طفليه المصابَين بالغارة، إلى المركز. أحدهما كان قد فارق الحياة، لكن الأب لم يشأ تصديق ذلك. أمسك بيدي قائلاً: أرجوك افحصه جيداً. فحصته وعبّرت له عن أسفي، إذ إنه مات. من ثم ذهبت لإسعاف غيره. بعد دقائق اقترب مني الأب من جديد وراح يرجوني: كرماً لله، إنه أعزّ أولادي. افحصه، ربما كان مغماً عليه وما زالت فيه روح. عدت وتأكدت من الوفاة من جديد، وقلت له: عوضك عند الله. رحت أكمل عملي، قبل أن أنظر خلفي وأجد الأب ينفخ في فم ابنه، علّه يتنفس ويعود إلى الحياة من جديد". يضيف أبو الفوز: "كان الطبيب يبكي وهو يخبرني بذلك. وقال لي: كلنا آباء، لكن عملنا يقتضي أن نكون متماسكين في مثل هذه المواقف".
عقب المجزرة، أصدرت القيادة الموحدة للغوطة الشرقية تعميماً أعلنت فيه حظراً للتجوّل في مناطق الغوطة، تحسباً لأي غارات جديدة قد تستهدف تجمعات المدنيين في الأماكن العامة والأسواق من جديد. لكن حظر التجوّل لم يحمِ المدنيين من القذائف التي استهدفت منازلهم في الأيام التالية. يقول باسل: "ودّعنا اليوم (أمس) ستة شهداء بقصف جديد. هؤلاء ماتوا في بيوتهم. لم يحمهم منع التجوّل ولا ملازمتهم بيوتهم. أن تبقى في بيتك من دون إيذاء جارك وﻻ أحد المقرّبين منك ولا أحد البعيدين، لا يشفع لك ولا يضمن أن تسلم من بطش الظالم".
من جهته، أصدر المكتب الطبي لمدينة دوما بياناً الثلاثاء الماضي، أعلن فيه أن كادره الطبي اضطر إلى إجراء عدد قياسي من العمليات الجراحية في خلال 24 ساعة. وقد وصل عدد العمليات تحت التخدير العام إلى 116 عملية جراحية، 78 منها في دوما و38 في مراكز أخرى في الغوطة. أما 44 جراحة منها، فقد أجريت لنساء وأطفال.
وأوضح البيان أن عمليات القصف الأخيرة التي استهدفت مدينة دوما في 12 و16 أغسطس/ آب الجاري والتي تسببت بمقتل أكثر من 140 شخصاً وجرح أكثر من 700 آخرين، أدّت إلى ضغط هائل على النقاط الطبية والكادر الطبي في الغوطة، التي استنفرت كل طاقتها لإسعاف العدد الأكبر من الإصابات بإمكانياتها المحدودة.
نداء إلى الأمم المتحدة
توجّه المكتب الطبي لمدينة دوما إلى الأمم المتحدة بنداء إنساني، طالب فيه بموقف صريح تجاه ما يحدث في المدينة. وسأل المنظمة اتخاذ الإجراءات الكفيلة التي نصت عليها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، للضغط على النظام السوري بهدف وقف الهجمات ضد المدنيين، والسماح بدخول الفرق الطبية ومستلزمات العمليات الجراحية والعناية والإنعاش.
اقرأ أيضاً: فخّ الإدمان.. السوريّون ضحاياه وسط الحرب