منذ سنوات تعيش الصحافية الجزائرية، نائلة برحال، على تخمة من الذكريات المؤلمة عن مجزرة بن طلحة في الجزائر، فالصور المرعبة وأصوات الضحايا ما زالت تحفر عميقاً في ذاكرتها، وتطبع جداراً من الأسى والحزن. لم تتجاوز برحال لحظة الدهشة والموت على الرغم من مرور 20 سنة كاملة على تلك الليلة المشؤومة. لكنها قررت أخيراً نشر شهادتها عن تلك المجزرة، "لتكون رسالة لكل من يريد ويسعى لأن يعيد الجزائر إلى سنوات الدم والعنف"، كما تقول، مضيفة أن "المعاناة التي عشتها والرعب والعنف جعلتني أدرك معاناة هؤلاء الجزائريين الذين كانوا فعلاً يواجهون الموت والدمار بمفردهم، ولم يكونوا آمنين حتى داخل منازلهم وغرف نومهم، وهم يُقتلون من دون أن يعرفوا ذنبهم أو سبب ذلك"، معتبرة أن "الضحايا الذين يرقدون في مقبرة سيدي رزين يظلون شهوداً إلى الأبد، كما أنني كنت شاهدة على الدم والموت".
كان حي بن طلحة من بين الأحياء التي يسيطر عليها الإرهابيون، ومن بين المناطق التي تصفها المجموعات الإرهابية بـ"المناطق المحررة"، إذ لم تكن قوات الجيش والأمن تقدم على دخول هذه المناطق. وتصف برحال المشهد بالقول: "كنت ألتحق بالجامعة على بعد 20 كيلومتراً، وأخرج يومياً عند الساعة الخامسة صباحاً، وأتنقل سيراً على الأقدام لحوالى 5 كيلومترات، وصولاً إلى محطة الحافلات، وكنت ألتقي إرهابيين بالزي الأفغاني ومسلحين يسيرون على الأقدام أو على متن سياراتهم". وتقدّم وصفاً لأمير المجموعة المسلحة التي كانت تحتل الحي: "كان لدينا أمير اسمه أحمد بوشاقور ابن المنطقة، قيادي في الجيا (الجماعة الإسلامية المسلحة)، وكان يتنقل على متن سيارة رونو بيضاء، لم أكن أعرف رفاقه ولا شكله جيداً لكني أعرف ماضيه، فهو عاش الحرمان والإقصاء وفشل في دراسته وبعدها في الحصول على عمل".
وعن أحداث تلك الليلة، تروي برحال أنه "عند الساعة الحادية عشرة والربع ليلاً، فتحت والدتي باب الغرفة بعنف، طالبة مني النهوض بسرعة بعد أن سمعت عواء ذئاب غير عادي، كأنه عواء بشر". كان عواء الذئب إشارة إلى بدء المسلحين تنفيذ المجزرة، فقد قال الناجون من مجزرة الرايس التي حدثت قبل شهر إنهم سمعوا عواء قبل بدء المجزرة. في تلك الأثناء انفجرت قنبلة وبدأ إطلاق الرصاص متبوعاً بصراخ وعويل، والشباب في الخارج كانوا يركضون في كل الاتجاهات، وهم يصرخون "لقد قدموا"، في إشارة إلى الإرهابيين. أدركت برحال أن الحي محاصر من الإرهابيين، وكان أغلب جيرانها قد تمكّنوا من الفرار نحو الحمام الواقع في المدخل الرئيسي للمنطقة على بُعد أمتار من ثكنة عسكرية بعد أن حوّل العسكر فيلا مهجورة إلى مركز لهم. تشير برحال إلى أنها كانت تعتقد أن الأمر يتعلق باغتيال أشخاص يعملون في الأمن أو موظفين في مؤسسات حكومية يتهمهم الإرهابيون بالتعاون مع الأمن. وتضيف: "كنت أحاول إقناع نفسي للحظات أن الأمر يتعلق باغتيالات عادية كالتي كنا نعيشها، قبل أن ينقطع التيار الكهربائي فجأة ولا يتوقف الرصاص والتفجيرات أيضاً، كنت أجهل ماذا يحدث في الخارج ولم أكن أعرف سوى أن هناك قتلاً جماعياً بالجملة وإبادة وحرقاً وتخريباً".
كان الموت يقترب من برحال، إذ تعرض جار لها وزوجته للقتل بالساطور فيما اختُطفت حفيدته وعثر عليها مذبوحة لاحقاً. وكانت برحال تسأل والدتها، كما سكان الحي، عن سبب عدم قدوم العسكر لإنقاذ السكان، وعن عدم مقاومة أفراد الدفاع الذاتي، مشيرة إلى أنهم فروا قبل السكان: "استفزتني تصريحاتهم في القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الأجنبية عندما صوّروا أنفسهم كأبطال، بل تنقّل بعضهم إلى الخارج ليروي تفاصيل مجزرة لم يكن شاهداً عليها، وكان يجب أن يدخل السجن ويُعاقب على فراره وجبنه".
قتل الإرهابيون قريباً لنائلة برحال داخل بيتها رمياً بالرصاص، ثم "بدأت المواجهة المفتوحة مع الموت"، وفق قولها، مضيفة: "حاولنا منعهم من الوصول إلينا في الداخل، والرجال كانوا يقذفونهم بزجاجات مولوتوف أعدوها في وقت سابق بطرق تقليدية وكإجراء وقائي، أما الإرهابيون فلم يكونوا يملكون ذخيرة كافية وإلا لما توقفوا عن إطلاق النار. استمرت المواجهة وقتاً طويلاً، وبدأنا بالصراخ وهم يحاولون كسر الباب الخشبي".
تستعيد برحال مشهداً يعيد طرح الكثير من الأسئلة عن سبب التراخي الأمني والعسكري في التدخّل لإنقاذ المدنيين مع المجزرة، التي استمرت لوقت طويل من دون أن يتدخل الجيش أو تسارع قوات الأمن لحماية المدنيين. تذكر برحال أنه بعد خروجهم فجراً "اقترب ضابط شرطة بزيه الرسمي منا وخاطبنا بالقول: كنا نعلم أن الإرهابيين كانوا هنا منذ أسبوع وقمتم بإيوائهم".