شكير نصر الدين: استنطاق النصوص المهمّشة

03 مارس 2015
+ الخط -

أصدر المترجم والناقد المغربي شكير نصر الدين في الفترة الأخيرة ثلاث ترجمات هي "صمت الآلهة" لجيلبر سينويه، وكتابي ميخائيل باختين "الفرويدية" و"أعمال فرانسوا رابليه"، والتي تُضاف إلى ترجمات سابقة لباختين ("جمالية الإبداع اللفظي") ولويس كارول وجيروم روجي وغيوم ميسي وغيرهم.

بهذا المنجز، إلى أي حدّ يمكن أن نقول إن نصر الدين بدأ يتحسّس طريقاً خارج مسار عام للمترجمين العرب؟ خصوصاً أنه يلاحظ أن "معظم المترجمين يتخيّرون نقل الأعمال التي حالفها حظ الشهرة غاضّين الطرف عن أعمال أخرى قد تكون جيدةً لكنها غير معروفة خارج بلدانها".

حين سألناه عمّا يراهن عليه وهو ينقل إلى العربية أطروحة الدكتوراه التي أعدها المفكر الروسي ميخائيل باختين (1895 ـ 1975)، أكد لـ "العربي الجديد" أن "باختين لم يأخذ المكانة التي يستحقها في الدرس النقدي العربي"، مضيفاً "مع أن جلّ أعماله متوافرة في المكتبة العربية، إلا إن النظرة السائدة هي نظرة تختزل فكره في أطر مرجعية ومدارس نقدية هو أرحب منها، ولا تتسع لمفكر أسّس صرحه النقدي والفلسفي على الحوارية".

لاحظ نصر الدين ما يشبه الاكتفاء بما كُتب عنه أو تُرجم من كتاباته في العقدين الأخيرين، وكأن باختين استنفد وصار متجاوزاً. والحال، بحسبه، أن "هذا المفكر ما يزال يحتفظ بكل راهنيته، بل إننا عربياً في أمسّ الحاجة لإعادة قراءته وإمعان النظر في أطروحاته، بدلاً من الاكتفاء بالقراءات المبتسرة لفكره".

انتظر نصر الدين نحو عقدين من أجل نشر ترجمة كتاب باختين الضخم "جمالية الإبداع اللفظي" (2011) في مجلد واحد، بهدف وضع القارئ العربي أمام الصورة الحقيقية لفكره. خصوصاً أن الكِتاب حصيلة نشاط فكري يمتد على أكثر من خمسين عاماً (1920 ـ 1974). إذن كان الباعث الأول لتناول شكير لباختين هو تصويب زاوية النظر لفكر يتسم بالحوارية بكل تجلياتها.

ولعل الحافز إلى ترجمة كِتاب جديد هو "أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة" (منشورات الجمل، 2014) لا يختلف كثيراً عن المنطلق الأول، حيث رصد نصر الدين "الكثير من الدراسات التي تتحدث عن السخرية والاحتفالية والكرنفال، والتي تحوم حول كتاب باختين، وتشط عنه، أو هي تكتفي بما تقدمه الترجمة الفرنسية أو الإنجليزية لكتابه عن رابليه، من مقتطفات هنا أو هناك، وفي أحيان كثيرة نجد تخبطاً في الطرح النظري الذي يتصدّى لهذه الموضوعات، يجمع بين المفهوم ونقيضه".

يقول المترجم المغربي: "يهمني رابليه بصفتي ناقداً أدبياً أيضاً، إذ يُظهر باختين قدرة الأدب على الدفع بالنقد والفلسفة والجمالية عكس الصورة النمطية عندنا في الدرس النقدي العربي". لقد صار النص الأدبي، بالنسبة لشكير "فأر تجارب لما جاد به النقد في الغرب، إذ لم يعد للنص من ضرورة سوى تبرير مفاهيم نقدية رأت النور وفق صيرورة معرفية تخص الفضاء الثقافي الغربي".

يعتمد نصر الدين على شعرية جيرار جنيت كمثال، ليوضح فكرته. يقول: "لقد بنى جنيت مشروعه النقدي على أعمال مارسيل بروست الروائية. ومن خلال عملية الذهاب والإياب بين النص الأدبي والأطر النظرية الموجودة، تم خلق جهاز مفاهيمي عمَّر طويلاً وما يزال في السردلوجيا الغربية. ما ينقصنا في النقد الأدبي عربياً هو هذه الجرأة على المغامرة والمخاطرة، استنطاق نصوص عربية للدفع بالنقد الأدبي والجمالي وليس العكس".

ذكّرنا نصر الدين بأن عبد الفتاح كيليطو مثلاً قام بهذه العملية، أي ما سمّاه المترجم "استنطاق النصوص العربية"، إذ عاد كيليطو إلى مقامات الحريري ونصوص المعرّي والجاحظ وابن حزم وغيرهم وتناولها كما لم يفعل كاتب أو مترجم من قبل. وهو يؤكد إن "المشروع النقدي عند كيليطو ينبني على نصوص عربية مؤسسة، لكن المتمعن في كتاباته يجد أن المنطلق النقدي عنده كان يستند إلى منجزات الشعرية في صيغتها الفرنسية". ويضيف "إن المتصفح لكتاباته الأولى، "الأدب والغرابة" و"المقامات" على سبيل المثال لا الحصر، لا يجد عناء كبيراً في التعرف إلى المنظور الشكلاني بجهازه المفاهيمي مثلما صاغه بارت وتودوروف وكلود بريمون".

وعن وظيفة المترجم العربي اليوم، ولا سيّما أن غالبية الناشرين والمترجمين تذهب إلى نقل النصوص التي حظيت بالضوء في منابعها: جائزة، شهرة المؤلف، سبب أيديولوجي (..) بينما تُهمَل نصوص قد تكون أقوى وأهم لكن أقل شهرةً، يؤكد نصر الدين هذا الرأي، ويقول إن "المتتبع لسوق الترجمة يرصد هذا النزوع إلى ترجمة المتداول والرائج والمشهور، وما يحقق أعلى المبيعات تحت سماوات أخرى".

ولعل ذلك في جزء كبير منه رهين الآلة الدعائية والربح الذي يجري وراءه كل ناشر. وفي كل الأحوال، تكون النصوص المترجمة إما بطلب من ناشر، وهي السمة الغالبة اليوم، أو باقتراح من المترجم. وهو هنا يرى أن "دور المترجم واختياراته هي الموجّه الأساسي لما يجب أن تكون عليه النصوص المترجمة، وإلا تحوّل إلى موظف لدى الناشر أو الجهة الداعمة للترجمة".

وعن وضعه يقول "شخصياً، أزاوج بين الاقتراح - وهذا ما حصل مع جميع الكتب النقدية التي ترجمتها - والتصدي لترجمة ما يلتمسه مني الناشر، إذا كان العمل الروائي يستحق ذلك، وأجد متعة في ترجمته. والحاصل أن الروايات التي ترجمتها هي أعمال كانت محببةً لدي قبل عرض الناشر".

ثمة ميل واضح لدى المترجمين المغاربة إلى الفرنسية، يمكن تبريره تاريخياً. لكن هناك بعد جغرافي قلّما يتم الانتباه إليه، ونقصد هنا الجار الإسباني. فمعظم الروايات التي نقرأها لكتّاب الإسبانية هي من ترجمة كتّاب مشارقة. بينما نعرف أن الإسبانية لغة رائجة في مدن الشمال في المغرب، وتدرّس في جميع المدارس هناك.

يفسّر نصر الدين ذلك بأن "الترجمة عبر العصور كانت دوماً رهن جدلية الغالب والمغلوب، إن لم يكن عسكرياً، فالغلبة السياسية أو الاقتصادية هي الحاسم"، ويزيد "نحن في معظم التراب المغربي ابتلينا بشرّ الاستعمار الفرنسي، ثم جاءت شرور الليبرالية المتوحشة التي جعلت حضور مستعمر الأمس ما يزال ممعناً في غلبته".

إن ازدواجية المستعمِر، فرنسي وإسباني، شطرت المغرب إلى نصفين، ولكن الحضور الفرنكفوني الطاغي قد جعل الكفة في مجال الترجمة تميل إلى لغة موليير على حساب لغة سرفانتس. يحاول نصر الدين أن يكون بناءً في نظرته إلى هذه القضية، فيقول: "بالتأكيد هناك خلل في غياب التوازن، بالقدر الذي قد يوفر للمكتبة المغربية والعربية نصوصاً أدبيةً عميقةً بالإسبانية والبرتغالية، بل أكثر من هذا، نحن الأجدر والأقدر على ترجمة عمقنا الأندلسي".

دلالات
المساهمون