شــــــارع تــــوم جـــيمـــس

11 يونيو 2015
كيف لجماهير المنافس أن تصفق لي؟ (Getty)
+ الخط -
وقف أمام المرآة ينظر إلى الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو رأسه، لم يلاحظها قبل اليوم، ربما لو كان لاحظها من قبل لكان شَعر بالحزن من التقدم في العُمر، لكن اليوم فقط هو يشعر إنه أدى واجبه على أكمل وجه.

لم يكن يُصدق أنه بعد لحظات سيلعب ابنه مباراته الأولى مع أحد عمالقة كرة القدم، لم يكن يُصدق أن حلم الصغير توم استند إلى كتفه حتى أصبح أخيراً حقيقة.

المشهد مثالي، لا يُعكر صفوه سوى شيء واحد، إن اليوم هو ذكرى رحيل "لارا" زوجة "جيمس" و أم "توم"، جاء صوت توم من الخلف ليمنع دموع جيمس من أن تنهمر.

توم: أبي هل أنت مُستعد؟
جيمس: بالطبع أنا مُستعد ولكن الأهم هل أنتَ مستعد؟
توم: أتمني ذلك، في الواقع أنا مُرتعب يا أبي، مباراة رسمية وأنا في التشكيل الأساسي وأنا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عُمري، أنا سأرتدي قميص أياكس أمستردام وأدافع عن ألوانه اليوم؟

أشعر وكأنني في حلم.

ابتسم جيمس وقال: هذا ليس حلماً، بل هي اللحظة التي ظللنا نحلم بها منذ أن كنت طفلًا صغيرًا تلعب في الباحة الخلفية، تراوغ كل أقرانك قبل أن تضع الكرة في مرماهم وتركض لتحتفل مع أمك التي طالما وقفت تشاهدك وتشجعك، دائمًا كانت كذلك، حتى اليوم، ستقف في مكانِ ما تشاهدك وتشجعك أنا أعلم أن روحها لن تتركك في يومًا كهذا. قبل أن ننتقل إلى المكان الذي ستبني فيه المجد أريد أن أخبرك بعض الأشياء، حققها ولا تتنازل عنها.

خرجا من باب المنزل واتجها إلي سيارة جيمس ليتجهوا نحو مقر النادي الهولندي ليركب توم حافلة الفريق المُتجهة إلى ملعب أمستردام أرينا، بدأ جيمس في استكمال حديثه وهو يُدير مُحرك السيارة وقال: كُن النجم الذي يحبه الجميع ويشجعه الجميع، حتى جماهير خصومك، حتى إن كنت في الديربي، اجعل جماهير أيندهوفن تقف لك مصفقة حتى وإن سجلت في مرماهم.

بدى توم غير مقتنع بكلام أبيه وقال: وكيف لي أن أفعل ذلك يا أبي، أنت تعلم الكثير عن كرة القدم وتعلم جيدًا أن الجماهير لا تُحب نجم الفريق الخصم.

جيمس: هذا يحدث مع اللاعبين الاعتياديين ولكن لا يحدث مع الأساطير، لن أسمح للتاريخ سوى أن يضع لقب الأسطورة بجانب اسمك، أصنع التاريخ والمجد يا توم، أنتَ الآن لاعب في في فريق عظيم وقد تنتقل لفريق عظيم آخر، أنتَ لم تستمع بعد لموسيقى دوري الأبطال، ضع التاريخ أمامك،لا شيء غيره.

توم: إذاً كيف لجماهير المنافس أن تصفق لي، هذا لا يحدث يا أبي.

جيمس: بالطبع هذا يحدث، أنتَ تعلم بالتأكيد الخصومة التاريخية بين ريال مدريد وبرشلونة وتعلم كم هو صعب أن يحدث هذا في شبة الجزيرة الإيبيرية خاصة في لقاء الكلاسيكو، ولكنه حدث، حدث مراراً وتكراراً.

في عام 1980 مباراة كلاسيكو تقام في معقل الكتلان في الكامب نو، ريال مدريد فاز في تلك المباراة بهدفين دون رد، قدم يومها لاعب الميرنغي لاوري كانينغهام مباراة استثنائية، فعل كل شيء كُتب يوماً ما في كتاب كرة القدم، وعند خروجه وقفت جماهير برشلونة وجماهير ريال مدريد تصفق لهذا العبقري.

هذا لم يحدث فقط في الكامب نو بل تكرر معه مرتين في السانتياغو بيرنابيو، ارتسمت ملامح الإعجاب على وجه توم وتمنى أن يصبح يوماً ما مثل كانينغهام، ولكن جيمس لم يكن قد فرغ من حديثه بعد، استطرد في حديثه قائلاً: الأمر نفسه تكرر مع مارادونا وهو يلعب لبرشلونة بعدما راوغ عدداً من لاعبي مدريد ووضع الكُرة في المرمى وأعاد جمهور ريال مدريد الكَرّة مع رونالدينهو وهو يلعب للبلوغرانا أيضاً، أتعلم! حدث مع ألفريدو دي ستيفانو نفسه وهو يلعب لـ ميلوناريوس الكولومبي قبل انضمامه لريال مدريد وحدث مع الظاهرة رونالدو في الأولد ترفورد وهو لاعب لريال مدريد.

أنا لا أريدك أن تكون مثل هؤلاء فقط أريدك أن تصل لعظمة من أُطُلقت أسمائهم علي شوارع في بلادهم أريد شارع في بلدنا باسمك، كشارع زامورانو في تشيلي وشارع جوزيه مورينهو في البرتغال وشارع مارادونا في الأرجنتين وهيوجو سانشيز في المكسيك وماريو جوميز في ألمانيا، أريدك أن تصنع التاريخ يابني كما صنعوه، أريدك أن تلمس النجوم بيدك، لا، بل تُصبح أنت النجم في السماء يتطلع إليه الجميع.

أطفأ المُحرك بنهاية كلمات جيمس الذي قَبّل رأس ولده قبل أن يذهب أخيراً لمباراته الرسمية الأولى.

وصل جيمس إلى الملعب مُبكراً، كان سعيداً لأنه سيشاهد ابنه يحقق حلمه بعد دقائق، لكن في داخله كان يشعر بالغضب من ابنه الذي لم يتذكر ذكرى وفاة أمه.

بدأت المباراة واسم "توم" يزين القميص رقم 12 لأياكس أمستردام، بدأت المباراة حماسية ودون الحاجة لجس نبض، انطلق لاعب أيندهوفن جيفيري بروما من الرواق الأيمن ووضع الكُرة على رأس ويترو فيليمز الذي وضع الكرة في مرمى أياكس بكل سهولة مُعلناً عن تقدم أيندهوفن على أياكس في أول 10 دقائق من المباراة بنتيجة 1-0.

ارتسمت الحسرة في عين جيمس ربما أكثر من مُدرب أياكس وجماهيره ولاعبيه، مر الشوط الأول سريعاً وفشلت كل محاولات أياكس في التعادل.

نظر توم لأبيه وهو يتجه لغرفة خلع الملابس بين الشوطين وهو يشعر أنه خذل والده ولكن جيمس نظر له نظرة لم يرها توم منذ كان طفلاً يلعب في الباحة الخلفية، نظرة وحده يفهم معناها، نظرة تكاد تنطق لتقول له "الفشل ممنوع، لم يُخلق الفشل لأمثالك".

تبادلا الابتسامات وجلس جيمس في المدرجات يُصلي من أجل ألا تكون أول مباراة رسمية لولده هي خسارة كلاسيكو.

مع صافرة الشوط الثاني، كان أياكس أقوى هجومياً ودفاعياً، وبدا واضحاً أن توم وريكاردو فان راين هما الأبرز في أياكس.

وضع توم كرة بين مدافعي أيندهوفن ليجد ريكاردو نفسه مُنفرداً بحارس أيندهوفن ليضع الكرة بباطن قدمه في أقصى الزاوية اليُمنى ويركض كالمجنون ناحية توم يشكره على التمريرة وهمس في أذنه "لم تكن تمريرة بل أمراً بإحراز هدف" كاد جيمس أن يتعثر ويقع من المُدرج بعدما قفز في الهواء كــ شاب في الـ20 من عُمره.

المباراة أوشكت على الانتهاء، وبديل توم على الخطوط يجري عمليات الإحماء للدخول إلى أرض الملعب، نظر توم ناحيته ثم إلى الملعب مرة أخرى، الدقيقة الـ 85 انطلق توم من منتصف الملعب مراوغاً لاعبين من أيندهوفن ويمرر الأولى لريكاردو الذي يعطيه الثانية على حدود منطقة الجزاء، لم يُفكر توم كثيراً، ركل الكرة التي عرفت طريقها للزاوية الـ90 وحدها، وقف توم لجزء من الثانية لا يستطيع تصديق ما حدث، لقد أحرز للتو هدفه الأول في مباراته الأولى وضد من؟ ضد أيندهوفن.

انطلق توم مُحتفلاً بهدفه بطريقة غريبة رفع إصبعيه "السبابة والإبهام" وذهب نحو والده في المُدرجات وأعطى له التحية العسكرية في إشارة أنه قد نفذ أوامره.

وقف جيمس بعيداً وهو يتابع لحظات المؤتمر الصحافي بعد المباراة، وقف ليستمع إلى ما سيقوله ولده في أول مؤتمر صحافي له كلاعب مُحترف، نظر إلى السماء وكأنه ينتظر رسالة من لارا ولكن الرسالة جاءت عبر توم نفسه عندما سأله الصحافي: ما هو سر احتفالك بعد الهدف بتلك الطريقة؟

توم: التحية العسكرية كانت لأبي الذي انتظر ذلك اليوم طويلاً، أما رفع السبابة والإبهام هو حرف "L" فاليوم هو ذكرى وفاة أمي "لارا" لم أستطع أن أنساها في مثل هذا اليوم، حتى رقم قميصي هو الرقم 12 لأن الحرف "L" هو الحرف الثاني عشر في الأبجدية.

وقتها فقط علم جيمس أنه قد أدى رسالته وأن يوماً ما سيمر أحدهم في شارع "توم جيمس".

(مصر)
المساهمون