شظايا عن عالم غير قابل للسكن

14 سبتمبر 2020
جوديث باتلر (باكو فريري/ Getty)
+ الخط -

بغض النظر عن مكاننا، فنحن في أماكن كثيرة، نعيش الآن تحت ظرف أو ظروف جديدة خلقها الوباء. البعض منّا بلا شك يعيش معاناة الفقدان، والبعض يراقب من جزء أكثر أماناً في العالم. ولكننا كلنا نعيش مرتبطين بالمرض المحيط بنا وبالموت.  ومهما كان موقعنا من المرض فإننا بلا شك نفهمه بوصفه "عالمياً". وهو يورطنا في عالم من المخلوقات الحيّة التي تعد قدرتها على التأثير في غيرها مسألة حياة أو موت. لست متأكدة أنني سأقول إننا نعيش في عالم مشترك بما أن الكثير من مصادر هذا العالم بالتحديد لا تجري مشاركتها، وهناك من يدركون أنفسهم بأن ليس لهم حصة من العالم، وهذا يصنع الفرق في موقعنا مما يحدث. ربما هناك عالم بعينه، وهناك عوالم أخرى ليست جزءاً من هذا العالم بعينه. 

إن كنا سنتحدث عن عالم مشترك، فربما ينبغي أن نتحدث عن حصص العالم، حيث إن العالم ليس مقسماً بالعدل، وأحياناً نقول، محقين، إن العالم ينتمي إلى بعض الناس على حساب الآخرين. حصة كبيرة من الألم تتجمع في أجزاء العالم المقهور والمستعمَر وفي المجتمعات الملوّنة. وفي الولايات المتحدة، كما نعرف، فإن السود والملوّنين معرّضون للإصابة بالفيروس ثلاثة أضعاف البيض، وإنهم معرضون للموت ضعفي البيض. أي نوع من العالم تكون فيه هذا الإحصائيات صحيحة! أي نسخة من الحقيقة تخدم هذه الإحصائيات وأي عالم تصفه هذه الإحصائيات نفسها، حتى عندما تجلت اللامساوة الاجتماعية والاقتصادية تحت الظروف الوبائية؛ ظهر مأزق مناعي مشترك مفاده أننا نعيش بطرق مختلفة. 

إنني مجبرة على جرّ الفينومينولوجيا إلى زمننا

كلمة pandemic اشتقاقياً تلفت إلى كلمة تخصّ الجميع في أي مكان، إنه البلاء الذي يبدو أن الناس يتساوون فيه في كل مكان من خلال نظامي العدوى والمناعة، لا توجد فئة اجتماعية تؤمن مناعة مطلقة، حتى وإن بدا أن بعض المناطق قد أفلتت من الفيروس التاجي وبعضها احتوى آثاره من خلال أشكال من السلوك الاجتماعي. 

النقطة المحددة التي أريد تناولها تتعلق اليوم بإحساس مختلف بالعالم الوبائي بغض النظر عن موقعنا من الوباء، فهي ظاهرة أو قوة تشكل أزمة أو ربما حالة تمتد في جميع أنحاء العالم، ومعاملتها كحالة تخلق شكلاً من عالم ملموس وأود أن أقول إنه حيّ يعمل بمنطق القرب والتداول. قد يبدو في هذا الكلام بعض المبالغة، فالإنسان بالتأكيد ينقل المرض لغيره مثلما تنقله حيوانات في المراحل الأولى من تطورها، إلا أن الوباء يقول إن هناك قابلية عالمية للمعاناة المحتملة التي تنتمي إلى الحياة البشرية في علاقتها المناعية المحددة بالضبط مع نفسها وعالمها.

مشكلة المناعة ليست متعلقة فقط بالكيفية التي يكون عليها رد الفعل العضوي لما هو غريب أو أجنبي، بالرغم من أننا نفترض دائماً أن المناعة تخص ما هو خارجي، ولكن ردود الفعل المناعية لديها أسباب داخلية endogenous وخارجية exogenous. الاستجابات المناعية هي شكل من التفاعل الذي يتبع أنماطاً معينة جرى بناؤها عبر الزمن، إنها تُبني على الذكرة المناعية كما كانت بينما هي تحاول مواجهة تحدٍ جديد. لكن الفيروس يخلق تحدياً لم يتم تحضير الكائن الحي له بحكم تاريخه المناعي.

نحن معتادون على التفكير أن ذواتنا تكوّن رد فعل لما هو أجنبي، ما هو خارجي، لكن المشكلة ليست في مخاطر ما هو غريب - ويمكننا تصور لماذا جذّرت هذه المخيلة نفسها في تاريخ النظريات المناعية- بل إنها في تاريخ التفاعل غير المتأهب لما هو جديد، في ذلك الانقطاع مع الأنماط المكرسة والمؤسسة التي تحدد ما هو الخطر. بالمناسبة، هذا موقف ناقشه ودافع عنه منظرو البنائية التفاعلية لسنوات بمن فيهم توماس برادو. أطروحتهم أن الكائن الحي يُبنى من قبل محيطه حتى وهو يبني محيطه بالمقابل.

اعتدنا التفكير في أن ذواتنا تكوّن رد فعل لما هو أجنبي

نجد هذا الموقف نفسه في بعض نظريات الجنس والجندر. في الاستجابات المناعية فإن هيكل التفاعلات هو المهم. وربما أنني أنحو إلى موقف مماثل، من حيث أقترح أن هذه الحياة بهشاشتها وإصرارها، لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال علاقتها بالعالم ربما، تفاعلياً، كلمة يمكن أن أستخدمها ولست متأكدة إن كانت تعني بالتحديد ما أبحث عنه. في المقابل، فإن قابلية العالم للسكن هي شرط مسبق لحياة قابلة للعيش، وهذه هي أطروحتي. وسأتوسع في ذلك لاحقاً، ولكن ما يدهشني هو عدد المرات خلال فترة الوباء التي سمعت فيها نسخاً من السؤال التالي، ينطق أحياناً بقلق، أو بصيغة التفاجؤ والاندهاش: أي نوع من العالم هذا؟ أين يمكن أن يحدث هذا؟

سأقترح أن هذا السؤال هو عن العالم الذي يمكن للفيروس أن يحدث فيه وينتشر ويأخذ هذا المدى. إنها ليست فكرة جديدة عن عالمنا، إذ الأوبئة حدثت من قبل، ومع ذلك فإنها جديدة، بما أنّ هذا الوباء لم يحدث من قبل. وثمّة شيء عن الوباء يجعلنا نأخذ العالم بوصفه موضوعاً للتفحص وأن نسجله كمبرّر للإنذار، وفجأة نفهم العالم كظرف غامض يحدّ من الوجود كما نعرفه. حتى ونحن في مثل هذه الحالات نسأل عن العالم ونجعل منه موضوع قلقنا، فإن العالم الذي يلمسه الفيروس ليس عالماً له خريطة أو صورة، بل يعرض بشكل غير مباشر في سياق انتشار الفيروس وآثاره.

بالطبع يقدمون إلينا صور الغرافيك للفيروس بتاجه الأزرق السعيد وأشواكه الخطرة، وهذه التمثيلات تملأ شاشاتنا في محاولة لتمثيل حالة فيروسية لا يمكن تجسيدها. إنهم يعترفون علناً بأنها تمثيلات فاشلة، إنها أقرب إلى "لوغو" أو إعلان لافتتاح "ديزني وورلد"، وسيكون إعلاناً سيئاً بالتأكيد. أشكال غرافيك مختصرة تجمد الفيروس وترشه بالألوان، إنها المسودة الأولى من رسومات كرتون نسي أحدهم أن يكملها. وبعض الخرائط والرسومات اليومية التي تحاول أن تنتج صورة لعالم فيروسي مفيدة بالتأكيد، ولكنني لست متأكدة من أننا نفهم صورة العالم متضمناً فيه صفته الوبائية، ولكن لنتذكر ما قاله هايدغر من أن صورة العالم لا تعني صورة للعالم، ولكن تعني أن العالم يجري تصوره وفهمه كصورة.

يطرح هايدغر سوالاً حول ما إن كان يمكن أو ينبغي أن يجري تصور العالم على هذا النحو، وأشار إلى أن من يقف أمام صور العالم هذه، لا يسعى فقط إلى فهم النسخة المرئية للعالم وكليته، بل يسعى إلى أن يرى نفسه موضوعاً مستبعداً من العالم الذي يريد معرفته، وكأنه يقف في موضع المناعة والحصانة، أحياناً تعمل وسائل الإعلام على تعزيتنا، بافتراض أننا لسنا جزءاً من الصورة التي نراها، لسنا جزءاً من الموت الذي يجري إحصاؤه، لسنا من بين المعدودين، بل إننا نحن من نعد. إذا كان العالم الفيروسي أو معنى العالم الذي يمليه الفيروس يتعلق باللمس، بالتنفس، بالقرب والبعد، فإنه يجبرنا على إعادة موضعة الصورة في مجال اللمس، الشهيق والزفير، القرب من الآخرين، المساحات التي أغلقت دون العالم الخارجي.

جزء مما يجعل الفيروس مخيفاً أننا لا نستطيع رؤية حركته من دون أدوات تكنولوجية متطورة، وهذا يقودنا إلى الاعتماد على هذه الرسومات المبتسرة، ولهذا السبب أعود إلى الفينومينولوجيا أو ربما أنني مجبرة على جر الفينومينولوجيا، إلى هذه الأزمنة لفهم ظاهرة عرض معنى للعالم، أو فهم العالم الذي يعطى إلينا مجزأً من خلال اللمس والتنفس؛ السطح والهواء. 


* ترجمة: نوال العلي

المساهمون