فجعني ما آلت إليه أحوال العمارة التي تطلّ طوابقها الأخيرة على قصرٍ منيف، تنهض في حديقته شجرة أرزٍ كبيرة، قد تكون الوحيدة في بيروت.
لم أكن قد رأيت شجرة أرزٍ قبل أن أسكن تلك الشّقة، فكلّ محاولاتي والأصدقاء الذهاب إلى منطقة الأرز، المُكلّلة بالثلج، في الشمال البعيد، باءت بالفشل. لكنني عندما جئت لاستئجار الشقّة، قبل سبعة عشر عاماً، رأيتُ من الشرفة الصغيرة شجرة باسقة، عرفت من دون أن أسأل، أنها هي ذاتها.. شجرة الأرز!
كنت أمنّي النفس، وأنا أقف أمام العمارة بعد غياب، بدخول الشقة رقم 2 في الطابق السابع، حيث كنت أسكن. وهي الشقة التي غادرتها مُكرهاً قبل اثنتي عشرة سنة، عندما اقتادوني منها إلى السجن، ومنه إلى خارج البلاد. ولطالما حلمت، طوال سنوات الغياب، بأن أقف دقيقة على الشرفة، لألقي نظرة على شجرة أرز قد تكون الوحيدة في بيروت، لطالما حرصتُ على أن أستقبل صباحاتي وأتأمّل مشهدها البديع، بأغصانها العريضة التي تشبه أجنحة طائر الرُّخ.
كان مدخل العمارة مغموراً بعتمة خفيفة حالت دوني والاقتراب من المصعد القابع هناك، ما أوحى إليّ بأنه كان معطّلاً منذ وقتٍ طويل.
تساءلتُ في نفسي: من أين جاء كلّ هذا الشحوب؟ ومتى حلّ في المدخل الذي ظلّ وضيئاً في الماضي وفي ثنايا الذاكرة؟!
ثمّة أضواء جانبيّة يغزوها الغبار المتراكم. لكن العتمة كانت قادرة على هزيمة كلّ أثرٍ للضوء الخافت المتسلل من أمكنة مجهولة.
اقــرأ أيضاً
عندما أطلّ حارس المبنى، كان شخصاً آخر غير الذي كنت أعرفه. وتأكيداً على علاقة قديمة تربطني بالمكان وسكانه، سألت الرجل عن "حسن"، الحارس القديم للمبنى. فقال الرّجل بانفعالٍ باردٍ بدا محايداً أكثر من اللزوم:
ـ حسن مات. ظلّ يحتسي الويسكي كلّ يوم، من الصباح حتّى آخر الليل، فمات!
ترحّمت على حسن الذي مات في الميدان الذي أحبّ، وخاض معاركه دون انقطاع منذ أيّامي الأولى في العمارة.
وكنّا نقف في أوّل العتمة التي تعتّقت هناك بعد أن استولت على المدخل. ولم أجد بُدّاً من أن أسأل عن "جابر"، الرجل الذي كان يجلس طوال الوقت على بدّالة الهاتف القديمة، يوزِّع مكالمات العمارة في الإرسال والتلقي، ويسترق السّمع إلى بعضها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فقال الرّجل الذي تسلّم عمله بعد حبسي وترحيلي مُكرهاً:
ـ جابر أيضاً مات. كانت له زوجة صغيرة وجميلة أحبت رجلاً آخر، صغيراً ووسيماً، فتركت زوجها المسكين وحيداً، فمات الرجل من شدّة القهر والوحدة.
لم أجد سوى أن أترحّم على جابر، وأن أتذكّر دماثته غير المنسجمة مع وجه شديد القسوةِ وملامح بالغة الحدّة. بيد أن وجه زوجته الرائق كان أكثر حضوراً. فقد ظلّ جمالها يفرض علينا، نحن سكّان العمارة الذين لم نكن لنلتقي إلاّ للنميمة، أن نعقد مقارنة بينها وبين الملامح القاسية لجابر، ونتخيّل الظُّلم الفادح الذي يصيبها هناك، حين تهجع على سريرها وتتهيّأ له آخر النهار!
سألتُ عن "أبو زاهر"، صاحب السوبر ماركت الذي يقع عند مدخل العمارة، والذي تبدّت لي أحوال بضاعته من خلف الزجاج باهتة وقديمة، تثير الأسى في النّفس ولا تشبه ما كانت عليه في زمني، فسمعتُ الرجل يقول:
ـ أبو زاهر مات. كان يُجري عمليّة مفتوحة في القلب، فمات فيها!
اقــرأ أيضاً
ثمّ تذكّرتُ "أميرة"، المرأة التي ودّعت جمال صباها الذي لا شكّ فيه، لكنها كانت تستعيده بسهولة وهي تُحدِّق في البورتريه الذي رسمه لها "يوسف فرنسيس" عندما كانت في مصر، بعد أن أذهله جمالها، كما قالت، وانتزعت شهادة من أختها السمينة الجالسة إلى يمينها، فسألتُ عنها.
قال الحارس:
ـ أميرة، يا حرام، مرضت بالسرطان. في أيامها الأخيرة تحوّل بياض وجهها إلى لون أسود، وتقلّص حجمها لتصبح في حجم طفلة، ولكنها سرعان ما ماتت.
نسيتُ أن أترحّم على أميرة أمام الرّجل، لكنني تذكرتُ أن شقيقتها التي كانت تقيم معها في الفترة الأخيرة، والتي نسيتُ اسمها، وإن كنتُ أذكر أن جمالها لم يكن من النوع الذي يغوي يوسف فرنسيس على رسمه، فقد تقلِب المعايير الجماليّة لإناثه اللواتي يجلسن بشعورهن المتماوجة مثل حوريات الجنّة.
وما زلتُ أذكر أن تلك الأخت، على عكس أميرة، كانت بالغة القِصَر، بالغة البدانة، بالغة الفظاظة والصوت الجهير، وفيها قبحٌ خفيف، وليست لها أية ملامح من أميرة التي نسيتُ أن أترحّم عليها، مثلما نسيت اسم اختها:
ـ تقصد ليلى!؟
قال الرجل الذي يقف قبالتي مستفسراً، فأجبت وكأنني التقط درّة ضاعت مني:
ـ نعم.. نعم، كان اسمها ليلى!
توقّف الرجل قليلاً ثم قال:
ـ ربما تكون ليلى هي الأخرى قد ماتت، فقد خَرَجَتْ من هنا ولم تعُد!
وعندما قرأ الحارس السؤال في عينيّ أضاف:
ـ لقد استيقظتْ ليلى ذات صباح فاكتشفت أن سيارتها "الفولكس فاجن" قد سُرقت. وبعد يومين جاءها هاتف قيل لها فيه إن السيّارة في البقاع. حدّدوا لها المكان بدقّة، والمبلغ المطلوب دفعه لتشتري السيّارة.
لم أندهش لأن شخصاً يدفع مالاً يشتري به سيارته المسروقة، فتلك المسألة كانت شائعة منذ وقت طويل. لكنني كنت أفكِّر في أن سيارة "فولكس فاجن" صغيرة وقديمة ومخلخلة هي التي أودت بليلى إلى التهلكة.
وعندما استنفدتْ ذاكرتي كلّ ما لديها، ولم أجد أسماء أخرى أسأل عنها، كان لا بد لي من طرح السؤال الذي جئت من أجله:
ـ قل لي، من يسكن الشقة رقم 2 في الطابق السّابع؟!
أجاب الرجل على سؤالي بسؤال:
ـ هل تقصد شقّة.. (فلان)؟!
كان اسمي يسقط في تلك اللحظة على لسانه بسهولة، كأنني ما زلت أسكن تلك الشّقة التي تطلّ على شجرة الأرز الوحيدة في المدينة.
لكنني، رغم دهشتي، اكتفيت بهزّ رأسي، تأكيداً ضمنياً على أنني أعرف الشّخص صاحب الاسم!
أجاب الرجل:
ـ هي سيِّدة فلسطينيّة عجوز، وحيدة. فبعد عامين من خروجه مع السُّفُن التي غادرت بيروت إلى تونس، اضطر صاحب العمارة إلى تأجير البيت كشقّة مفروشة، فكان من نصيب تلك السيِّدة التي جلست على مقعده؛ نامت على سريره؛ وفي كثيرمن الأوقات كنت أراها وهي تمسح الغبار عن صورته المُعلّقة على الحائط، وعن الكتب المتراكمة التي كانت تستولي على جدران البيت.
ثم أضاف بصوتٍ لا أدري لماذا حرص على أن يكون خفيضاً:
ـ أحياناً كنت أجدها مستغرقة في القراءة وهي تبكي. وعندما تلحظني، كانت تمسح دموعها وهي تقول: هذه الكتب تحكي عن فلسطين!
قلت له بلهجة بدت آمرة:
ـ لا تقل لي إن السيّدة هي الأخرى.. ماتت!؟
حدّق إليّ دون أن يجيب، فأضفتُ قائلاً إن لديّ رغبة في أن تفتح لي السيِّدة العجوز الباب لأطلّ من شرفتها على شجرة الأرز المزروعة في حديقة القصر المجاور. لكنني صحتُ مُكرراً:
ـ رجاءً.. لا تقل لي إنها ماتت!
هزّ الرجل رأسه بأسى، وكأنه يعتذر وهو يقول:
ـ ولكنها للأسف، ماتت!
ثم قال دون شرح طويل:
ـ استفقدناها بعد ثلاثة أيّام من موتها، كسرنا باب الشّقة فوجدناها ميِّتة، دون أن ننتبه إلى ساعتها التي حلّت في غفلة منّا.
غير أنه أضاف، مبدياً تعاطفه مع رغبتي:
ـ ولكن، إذا كنت ترغب في دخول الشقة لتطلّ من شرفتها، فلا بأس.. لا بأس. سوف أفتح لك الباب.. فلديّ المفتاح.
كنت أتأرجح بين رغبتي القديمة في الدخول، وأخرى شرعت تذوي في داخلي.
حدّقتُ في العتمة التي اشتدت، لتطرد مزيداً من الضوء وتتسلّق قلبي وجدران مدخل العمارة. لكنني حسمتُ الأمر، وبهزّة من رأسي، أشرتُ له بالموافقة.
سلّمت إرادتي للرجل ومضيت خلفه.
ركبنا في المصعد الذي ازدادت عتمته، فبدا لي حينئذٍ أنه بات أكثر وهناً وتلكؤاً في الوصول.
فتح الرجل باب الشّقة بمفتاحي القديم.
ولجنا باباً يخبئ صمتاً وهواءً حامضاً سكن البيت والحيطان. مررنا من جانب رفوف كتبٍ غابت عنها الألفة وحلّ الغُبار، وصوفة عهدتُها بنيّة داكنة فأضحت تحمل لوناً باهتاً. ثمّ لمحتُ مسماراً وحيداً على الجدار، في زاوية طالما احتلتها صورتي التي غابت عنها الآن.
توجهتُ نحو الشُّرفة.
تطلّعتُ باتجاه القصر المنيف.
فوجئت بأن ورود الحديقة لم تكن هناك.
وفي المكان الذي كانت تنهض فيه شجرة الأرز لتُظلِّل الذاكرة، بدا الفراغ مريعاً، فلم يكن ثمّة شجرة تُشبه طائر الرُّخ.
سألت الرجل:
ـ منذ متى قطعوا شجرة الأرز التي كانت هناك.. في الحديقة؟!
أجاب بذهول واستهجان للسؤال:
ـ لم تكن هناك، في أيّ يومٍ من الأيام، شجرة أرزٍ في المكان.. أبداً لم تكن!!
عدتُ والرّجل من حيث جئنا.
أمام العمارة، سلّمتُ عليه شاكراً. ودعته ومضيت وأنا أتساءل في سرّي عن المكان الذي رحلت إليه شجرة الأرز.
وعندما التفتُّ نحو الرجل، للمرّة الأخيرة، رأيته وهو يُشيّعني بعينين متسائلتين.
توقفتُ، التفتُّ إليه، ثمّ طرحتُ عليه السؤال الأخير:
ـ قلّ لي، ما اسم ذلك الرجل الذي كان يسكن الشقّة التي شغلتها من بعده العجوز الفلسطينيّة قبل أن تموت؟ قل لي، أعتقد أنني قد نسيت اسمه!؟
كنت أسمع من خلفي اسمي يتردد على لسانه، وكأنه يهتف بي، يستحثني على الوقوف.
لكنني مضيتُ مُسرعاً، مخلّفاً ورائي تلك الظلمة التي تتسلّق قلبي والجدران.. وتستوطن مدخل العمارة التي فجعني ما آلت إليه أحوالها!
كنت أمنّي النفس، وأنا أقف أمام العمارة بعد غياب، بدخول الشقة رقم 2 في الطابق السابع، حيث كنت أسكن. وهي الشقة التي غادرتها مُكرهاً قبل اثنتي عشرة سنة، عندما اقتادوني منها إلى السجن، ومنه إلى خارج البلاد. ولطالما حلمت، طوال سنوات الغياب، بأن أقف دقيقة على الشرفة، لألقي نظرة على شجرة أرز قد تكون الوحيدة في بيروت، لطالما حرصتُ على أن أستقبل صباحاتي وأتأمّل مشهدها البديع، بأغصانها العريضة التي تشبه أجنحة طائر الرُّخ.
كان مدخل العمارة مغموراً بعتمة خفيفة حالت دوني والاقتراب من المصعد القابع هناك، ما أوحى إليّ بأنه كان معطّلاً منذ وقتٍ طويل.
تساءلتُ في نفسي: من أين جاء كلّ هذا الشحوب؟ ومتى حلّ في المدخل الذي ظلّ وضيئاً في الماضي وفي ثنايا الذاكرة؟!
ثمّة أضواء جانبيّة يغزوها الغبار المتراكم. لكن العتمة كانت قادرة على هزيمة كلّ أثرٍ للضوء الخافت المتسلل من أمكنة مجهولة.
عندما أطلّ حارس المبنى، كان شخصاً آخر غير الذي كنت أعرفه. وتأكيداً على علاقة قديمة تربطني بالمكان وسكانه، سألت الرجل عن "حسن"، الحارس القديم للمبنى. فقال الرّجل بانفعالٍ باردٍ بدا محايداً أكثر من اللزوم:
ـ حسن مات. ظلّ يحتسي الويسكي كلّ يوم، من الصباح حتّى آخر الليل، فمات!
ترحّمت على حسن الذي مات في الميدان الذي أحبّ، وخاض معاركه دون انقطاع منذ أيّامي الأولى في العمارة.
وكنّا نقف في أوّل العتمة التي تعتّقت هناك بعد أن استولت على المدخل. ولم أجد بُدّاً من أن أسأل عن "جابر"، الرجل الذي كان يجلس طوال الوقت على بدّالة الهاتف القديمة، يوزِّع مكالمات العمارة في الإرسال والتلقي، ويسترق السّمع إلى بعضها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فقال الرّجل الذي تسلّم عمله بعد حبسي وترحيلي مُكرهاً:
ـ جابر أيضاً مات. كانت له زوجة صغيرة وجميلة أحبت رجلاً آخر، صغيراً ووسيماً، فتركت زوجها المسكين وحيداً، فمات الرجل من شدّة القهر والوحدة.
لم أجد سوى أن أترحّم على جابر، وأن أتذكّر دماثته غير المنسجمة مع وجه شديد القسوةِ وملامح بالغة الحدّة. بيد أن وجه زوجته الرائق كان أكثر حضوراً. فقد ظلّ جمالها يفرض علينا، نحن سكّان العمارة الذين لم نكن لنلتقي إلاّ للنميمة، أن نعقد مقارنة بينها وبين الملامح القاسية لجابر، ونتخيّل الظُّلم الفادح الذي يصيبها هناك، حين تهجع على سريرها وتتهيّأ له آخر النهار!
سألتُ عن "أبو زاهر"، صاحب السوبر ماركت الذي يقع عند مدخل العمارة، والذي تبدّت لي أحوال بضاعته من خلف الزجاج باهتة وقديمة، تثير الأسى في النّفس ولا تشبه ما كانت عليه في زمني، فسمعتُ الرجل يقول:
ـ أبو زاهر مات. كان يُجري عمليّة مفتوحة في القلب، فمات فيها!
ثمّ تذكّرتُ "أميرة"، المرأة التي ودّعت جمال صباها الذي لا شكّ فيه، لكنها كانت تستعيده بسهولة وهي تُحدِّق في البورتريه الذي رسمه لها "يوسف فرنسيس" عندما كانت في مصر، بعد أن أذهله جمالها، كما قالت، وانتزعت شهادة من أختها السمينة الجالسة إلى يمينها، فسألتُ عنها.
قال الحارس:
ـ أميرة، يا حرام، مرضت بالسرطان. في أيامها الأخيرة تحوّل بياض وجهها إلى لون أسود، وتقلّص حجمها لتصبح في حجم طفلة، ولكنها سرعان ما ماتت.
نسيتُ أن أترحّم على أميرة أمام الرّجل، لكنني تذكرتُ أن شقيقتها التي كانت تقيم معها في الفترة الأخيرة، والتي نسيتُ اسمها، وإن كنتُ أذكر أن جمالها لم يكن من النوع الذي يغوي يوسف فرنسيس على رسمه، فقد تقلِب المعايير الجماليّة لإناثه اللواتي يجلسن بشعورهن المتماوجة مثل حوريات الجنّة.
وما زلتُ أذكر أن تلك الأخت، على عكس أميرة، كانت بالغة القِصَر، بالغة البدانة، بالغة الفظاظة والصوت الجهير، وفيها قبحٌ خفيف، وليست لها أية ملامح من أميرة التي نسيتُ أن أترحّم عليها، مثلما نسيت اسم اختها:
ـ تقصد ليلى!؟
قال الرجل الذي يقف قبالتي مستفسراً، فأجبت وكأنني التقط درّة ضاعت مني:
ـ نعم.. نعم، كان اسمها ليلى!
توقّف الرجل قليلاً ثم قال:
ـ ربما تكون ليلى هي الأخرى قد ماتت، فقد خَرَجَتْ من هنا ولم تعُد!
وعندما قرأ الحارس السؤال في عينيّ أضاف:
ـ لقد استيقظتْ ليلى ذات صباح فاكتشفت أن سيارتها "الفولكس فاجن" قد سُرقت. وبعد يومين جاءها هاتف قيل لها فيه إن السيّارة في البقاع. حدّدوا لها المكان بدقّة، والمبلغ المطلوب دفعه لتشتري السيّارة.
لم أندهش لأن شخصاً يدفع مالاً يشتري به سيارته المسروقة، فتلك المسألة كانت شائعة منذ وقت طويل. لكنني كنت أفكِّر في أن سيارة "فولكس فاجن" صغيرة وقديمة ومخلخلة هي التي أودت بليلى إلى التهلكة.
وعندما استنفدتْ ذاكرتي كلّ ما لديها، ولم أجد أسماء أخرى أسأل عنها، كان لا بد لي من طرح السؤال الذي جئت من أجله:
ـ قل لي، من يسكن الشقة رقم 2 في الطابق السّابع؟!
أجاب الرجل على سؤالي بسؤال:
ـ هل تقصد شقّة.. (فلان)؟!
كان اسمي يسقط في تلك اللحظة على لسانه بسهولة، كأنني ما زلت أسكن تلك الشّقة التي تطلّ على شجرة الأرز الوحيدة في المدينة.
لكنني، رغم دهشتي، اكتفيت بهزّ رأسي، تأكيداً ضمنياً على أنني أعرف الشّخص صاحب الاسم!
أجاب الرجل:
ـ هي سيِّدة فلسطينيّة عجوز، وحيدة. فبعد عامين من خروجه مع السُّفُن التي غادرت بيروت إلى تونس، اضطر صاحب العمارة إلى تأجير البيت كشقّة مفروشة، فكان من نصيب تلك السيِّدة التي جلست على مقعده؛ نامت على سريره؛ وفي كثيرمن الأوقات كنت أراها وهي تمسح الغبار عن صورته المُعلّقة على الحائط، وعن الكتب المتراكمة التي كانت تستولي على جدران البيت.
ثم أضاف بصوتٍ لا أدري لماذا حرص على أن يكون خفيضاً:
ـ أحياناً كنت أجدها مستغرقة في القراءة وهي تبكي. وعندما تلحظني، كانت تمسح دموعها وهي تقول: هذه الكتب تحكي عن فلسطين!
قلت له بلهجة بدت آمرة:
ـ لا تقل لي إن السيّدة هي الأخرى.. ماتت!؟
حدّق إليّ دون أن يجيب، فأضفتُ قائلاً إن لديّ رغبة في أن تفتح لي السيِّدة العجوز الباب لأطلّ من شرفتها على شجرة الأرز المزروعة في حديقة القصر المجاور. لكنني صحتُ مُكرراً:
ـ رجاءً.. لا تقل لي إنها ماتت!
هزّ الرجل رأسه بأسى، وكأنه يعتذر وهو يقول:
ـ ولكنها للأسف، ماتت!
ثم قال دون شرح طويل:
ـ استفقدناها بعد ثلاثة أيّام من موتها، كسرنا باب الشّقة فوجدناها ميِّتة، دون أن ننتبه إلى ساعتها التي حلّت في غفلة منّا.
غير أنه أضاف، مبدياً تعاطفه مع رغبتي:
ـ ولكن، إذا كنت ترغب في دخول الشقة لتطلّ من شرفتها، فلا بأس.. لا بأس. سوف أفتح لك الباب.. فلديّ المفتاح.
كنت أتأرجح بين رغبتي القديمة في الدخول، وأخرى شرعت تذوي في داخلي.
حدّقتُ في العتمة التي اشتدت، لتطرد مزيداً من الضوء وتتسلّق قلبي وجدران مدخل العمارة. لكنني حسمتُ الأمر، وبهزّة من رأسي، أشرتُ له بالموافقة.
سلّمت إرادتي للرجل ومضيت خلفه.
ركبنا في المصعد الذي ازدادت عتمته، فبدا لي حينئذٍ أنه بات أكثر وهناً وتلكؤاً في الوصول.
فتح الرجل باب الشّقة بمفتاحي القديم.
ولجنا باباً يخبئ صمتاً وهواءً حامضاً سكن البيت والحيطان. مررنا من جانب رفوف كتبٍ غابت عنها الألفة وحلّ الغُبار، وصوفة عهدتُها بنيّة داكنة فأضحت تحمل لوناً باهتاً. ثمّ لمحتُ مسماراً وحيداً على الجدار، في زاوية طالما احتلتها صورتي التي غابت عنها الآن.
توجهتُ نحو الشُّرفة.
تطلّعتُ باتجاه القصر المنيف.
فوجئت بأن ورود الحديقة لم تكن هناك.
وفي المكان الذي كانت تنهض فيه شجرة الأرز لتُظلِّل الذاكرة، بدا الفراغ مريعاً، فلم يكن ثمّة شجرة تُشبه طائر الرُّخ.
سألت الرجل:
ـ منذ متى قطعوا شجرة الأرز التي كانت هناك.. في الحديقة؟!
أجاب بذهول واستهجان للسؤال:
ـ لم تكن هناك، في أيّ يومٍ من الأيام، شجرة أرزٍ في المكان.. أبداً لم تكن!!
عدتُ والرّجل من حيث جئنا.
أمام العمارة، سلّمتُ عليه شاكراً. ودعته ومضيت وأنا أتساءل في سرّي عن المكان الذي رحلت إليه شجرة الأرز.
وعندما التفتُّ نحو الرجل، للمرّة الأخيرة، رأيته وهو يُشيّعني بعينين متسائلتين.
توقفتُ، التفتُّ إليه، ثمّ طرحتُ عليه السؤال الأخير:
ـ قلّ لي، ما اسم ذلك الرجل الذي كان يسكن الشقّة التي شغلتها من بعده العجوز الفلسطينيّة قبل أن تموت؟ قل لي، أعتقد أنني قد نسيت اسمه!؟
كنت أسمع من خلفي اسمي يتردد على لسانه، وكأنه يهتف بي، يستحثني على الوقوف.
لكنني مضيتُ مُسرعاً، مخلّفاً ورائي تلك الظلمة التي تتسلّق قلبي والجدران.. وتستوطن مدخل العمارة التي فجعني ما آلت إليه أحوالها!