مرّ ثلاثة وعشرون عاماً على حادث مأساوي قلب حياة الشاب المغربي، حفيظ سلامة، وترك بصمته واضحة على جسد في مقتبل العمر، فبات من الأشخاص ذوي الإعاقة في مجتمع لا يعرف عن الدمج واحترام التنوع الشيء الكثير.
في السابعة عشرة من عمره، بينما كان يتحرك بحريّة على قدميه، ويلعب كرة القدم، ويشارك في الأنشطة الطلابية والاجتماعية بمدينته، ويتابع دراسته ويحلم في التخصص في علم النفس أو الفلسفة، أجهضت كلّ طموحات وأحلام، المراهق يومها، حفيظ سلامة (41 عاماً)، وبات يستخدم كرسيّاً متحركاً، في بلاد ليس فيها كثير من التسهيلات للأشخاص ذوي الإعاقة.
ينحدر حفيظ سلامة حوسة من مدينة الحاجب المغربية، وشاءت الأقدار عام 1996 أن تهوي فوق جسده شجرة صنوبر ضخمة، وهو في طريق العودة إلى منزل أسرته. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ الحادث "وقع في شهر رمضان، خلال فترة استعدادي لامتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) إذ عدت إلى البيت منهكاً، من دون أن تكون في نيتي مغادرته، لكنّ أمي كلفتني بجلب أسطوانة غاز، بعدما نفد ما لدينا، وذلك لاستكمال إعداد طعام الإفطار. ماطلت قليلاً، لكنّي في النهاية استجبت لطلبها، وذهبت نحو الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر إلى متجر بقالة يبعد عن البيت نحو كيلومتر واحد، وفي طريق العودة كانت المفاجأة، إذ كان ذلك اليوم الماطر آخر يوم أسير فيه على قدميّ". يتابع: "كنت أحمل أسطوانة الغاز، وأحثّ الخطى في الطريق الذي تحيط به أشجار الصنوبر، وصادفت صديقاً فاستدرت لألقي التحية عليه، وفجأة ومن دون سابق إنذار سقطت عليّ شجرة ضخمة اقتلعت بجذورها، فغبت عن الوعي ولم أدرك ما حصل بعدها".
جرى انتشال الشاب وسط صدمة وذهول عائلته وأصدقائه، والتوجه به إلى مستشفى محمد الخامس بمدينة مكناس. واستنفر الحادث سلطات مدينة الحاجب، وفتح تحقيق لمعرفة الملابسات. دخل حفيظ في غيبوبة دامت شهراً، فأخبره أهله بعد استعادة وعيه أنّ قلبه قد توقف عن النبض، وأنّه عاد إلى الحياة بأعجوبة، إذ تعرض لنزيف داخلي وثقب في الرئة، وكسر مزدوج في العمود الفقري: "فقدت كثيراً من الدم، وخضعت للعديد من الفحوصات والتحاليل والعمليات، وجرى نقلي من مستشفى إلى آخر، وكانت الكلفة المالية كبيرة على أسرتي. أما صدمتي بما وقع فلم أجد الكلمات المعبرة عنها، خصوصاً عندما أخبرني الطبيب أنّني لن أتمكن من المشي مجدداً، بعدما بات لديّ شلل في الأطراف السفلية".
كان هذا الحادث نقطة تحول في حياة حفيظ، إذ لم يتمكن بعده من إتمام دراسته، وتبخّرت أحلامه في أن يعمل ويحقق استقلاليته كأيّ شاب في عمره، أما كرة القدم التي كان مهووساً بها، فقد أصبح يكتفي بمشاهدة أصدقائه يلعبونها: "كنت أحاول فقط أن أتآلف مع وضعي الجديد، خصوصاً مع نظرات مجتمع لا يرحم. انخفض سقف توقعاتي إلى مستوى البحث عن كيفية الاعتماد على نفسي، من دون أن أشعر بأنني عالة على أسرتي، خصوصاً والدتي".
ما يحزّ أكثر في نفس حفيظ، أنّ ملف هذا الحادث لم يأخذ مجراه القانوني الطبيعي، فالأسرة لم تسجل محضراً بها مع انشغالها بما وقع لابنها، فيما جرى تقاذف المسؤولية داخل المجلس البلدي (الجهة المسؤولة)، الذي قال أحد مسؤوليه لوالد حفيظ إنّ الشجرة سقطت بفعل "قوة قاهرة". يعلق حفيظ: "والدي تعرض لضغوط من قبل أطراف أخرى حتى لا تجرى متابعتهم قضائياً، وجرى تقديم وعد له بمنحي رخصة سيارة أجرة، لكن للأسف في نهاية المطاف اكتشف أنّه سقط في شراك بعض المسؤولين، وقد غادر هو هذه الدنيا بغصّة في قلبه على حالي، بينما صارعت لأتقبل الوضع الجديد، ولم أتلقَّ أيّ رخصة أو تعويض مادي". يضيف: "لا أنكر أنّ تقبل الوضع الجديد تطلّب مني كثيراً من الشجاعة والدعم الأسري، لأتمكن من الخروج مجدداً إلى المجتمع والبحث عن فرص للاندماج فيه. كان عليّ تجاهل النظرات التي تلاحقني، والاختباء من عيون أمي المنكسرة، ورفاقي الذين لم يصدقوا ما حصل".
يتابع حفيظ: "ليس من السهل أن تجد مكاناً لك في سوق العمل، وأنت تتمتع بصحة جيدة، فما بالك إن كنت في كرسي متحرك". يؤكد بحزن ومرارة أنّ "معظم أرباب العمل يصدرون أحكامهم الجاهزة بناء على الشكل وليس على الإمكانات الفكرية والكفاءة، وكثيرون يرمقونك وكرسيك المتحرك بنظرات الشفقة والحسرة، كأنّ لسان حالهم يقول: كيف ستعمل وأنت على هذا الكرسي؟". ويتغافل هؤلاء تماماً عن العوائق التي يضعونها في طريق الأشخاص ذوي الإعاقة، مفضلين إقصاءهم عن أخذ دورهم، علماً أنّهم قادرون على العطاء مثل غيرهم، وربما أكثر.
بالرغم من كلّ هذا الألم، فإنّ حفيظ لا يعرف الاستسلام، إذ شارك في العديد من الدورات التأهيلية في مجال تصميم الإنفوغرافيك والمواقع الإلكترونية، كما نشط في عدد من الجمعيات، وهو ما ساعده في استعادة الثقة بنفسه وبمؤهلاته: "أتلقى بين فترة وأخرى طلبات لتصميم مواقع إلكترونية، ومواد إنفوغرافيك، وأتمكن عبر ما أجنيه من تأمين مصروفي، كما سبق لي العمل في مكتب للدراسات في مجال التنمية".
يأمل حفيظ أن يغير المجتمع ومؤسساته النظرة إلى الأشخاص ذوي الإعاقة، داعياً الجهات المعنية إلى اعتماد مقاربة شمولية في علاج ملفات التشغيل والتعليم والصحة والحماية الاجتماعية، لافتاً إلى أنّ "الشخص ذا الإعاقة في المغرب مظلوم على عدة مستويات، فهو شخص محكوم عليه بالفشل، في غياب أي فرص حقيقية للعمل، بل حتى كوتا (حصة) الـ7 في المائة التي اعتمدتها الدولة ليدخل من خلالها الأشخاص ذوو الإعاقة إلى الوظيفة العمومية لا تفي بالغرض، ولا تشجع من هم في وضعي على الاستقرار وتكوين أسرة".
ويصرّ حفيظ على ممارسة حياته بشكل يجنّبه السقوط في دوامة الاكتئاب أو الملل، إذ يقضي حيزاً مهماً من وقته في القراءة، التي سمحت له بالغوص في عوالم عديدة، وشكلت له فرصة مهمة لاكتساب تجارب متنوعة: "كانت القراءة وسيلتي للإفلات من واقعي"، لافتاً إلى ميله لكتب الفلسفة وعلم النفس أكثر الأحيان. ويملك حفيظ أذناً موسيقية يسافر عبرها مع مختلف الإيقاعات والألوان القريبة من ذوقه، علاوة على أسلوبه الساخر الذي ينتقد به الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية للبلاد، كما سبقت له مشاركة قصته مع العديد من متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي، في مذكرات بعنوان "قصتي مع قدري القاسي". يفكر في جمعها في كتاب في المستقبل القريب، كما يحضّر لديوان في الشعر السياسي الساخر.