أنشدَت البشريةُ الشعرَ، عبر تاريخ لُغات وحضارات. فالشعرُ كان، على الدوام، شجرةً يستظل الناسُ بفيئها في القيْظ، ويستريحُون منَ المسافات التي لا طاقة لهم على قطْعها. قادمُون وراحلون يتعلّمون كيف يصلُون إلى هذه الشجَرة، وكيف يسلّمون عليها، ويجلسُون تحت فرُوعها ليُنصتوا إلى نشيد المجهُول والمستَحيل.
كذلك أصبحَت البشريةُ تدرك أنّ هذه الشجرةَ هي ما يُعطي حياتَهم معنًى. فهي النبتةُ التي غرسَها الشعراءُ الأوّلون في الحياة التي يعيشونَها بدخيلتهم ومع بعضهم البعض، بل وفي حياتهم مع الكون والأشياء التي تحيطُ بهم. والقصيدة ماءُ هذه الشجرة، التي تحولتْ عبر الأزمنة إلى قصائد. تنمو الشجرةُ، تمتدّ أغصانُها وتسْمُق، تتضاعفُ ظلالُها وتدوم. وهي موجودةٌ بدون تمْييز في طريق كلِّ من يبحثُ عن صَديق في الوحْدة، ومُتضامنٍ في العذاب، ومُضيفٍ في شوارع البرْد.
الشعرُ شجرةُ المعنى، لأنه منَ الحياة يأتي وإلى الحياة يذهب. فهو لصيقٌ بها، من خلال لغة هي الجمالُ والحريةُ والإبداع. وبفضل الشعراء كبُر جذعُ هذه الشجَرة وتفرّعت أغصانُها. فهؤلاء الشعراءُ هم الذين عملوا على ابتكار أشكال وإيقاعات. كلُّ واحد منهم يُبدع فيها حسبَ قُدرته على صبّ نبض الحياة في كلمات القصيدة وأشكالها. إنّها الممارسةُ اليوميةُ التي لا يتخلّى عنها الشاعرُ وهو ينصت بجَميع حواسّه إلى الفرديِّ والجماعيِّ، الطبيعيِّ والحضاريِّ، الوطنيِّ والبشريِّ، مُجتمِعاً في لحظة من الوجُود.
وأقصدُ بالمعنى قيَم المُغامرة والاستكشاف والسعي إلى اللانهائي فينا وحوْلنا. من ثم فإن المعنى في الشعر ليس سوى هذا المجهُول الذي يُعيدنا كلَّ حين، بصَفاء لغته، إلى السؤال عن وجُودنا على الأرض، قادمينَ وراحلين. ولهذا كانت ظلالُ هذه الشجرة ذاتَ مستويات من الضوء، معنًى لا ينتهي. ولا شكَّ أننا بالشعر نتوقّفُ عن توهُّم أن الحياةَ هي تلك الطبقةُ الظاهرةُ من الوقائع اليوميّة، أو عن تخيّل أن وصفَها الخارجيّ، الأُحاديّ المعنى، هو نهايةُ ما يمثّل الحياة ويُصوّرها. شجرةُ المعنى باسقةٌ، وفي ما لا ينتهي من أضْواء ظلالها يكْمنُ السرُّ الذي كان الناسُ يسافرون لأجل الوصُول إليه. وهو ما يُفيد أنّ الشعر لا يصفُ الحياةَ فقط، بل يبدعُها ويمنحُها ما تُصبحُ به تجربةً يستحقُّ أنْ يعيشها كلُّ إنسان.
ومنَ المؤسف أنَّ الشعرَ يوجد اليومَ على حافة النسيان. شجرةً لا نلتفتُ إليها. نكادُ ننساها، ننسى أنها كلامُ حياتنا وبُوصلتُها. فزمنُنا يُنكر المعنى لأنه يُنكر الحياة. لا عجبَ في ذلك. زمنُ العولمة، الذي يبدّد المعنى بالاستهلاك والإعلام، يريدُ أن ينزع منّا الحياةَ ويُعوّضها بمُضاعفة الأسواق ومشَاهد الصُّوَر. هنا وهناك، في بقاع الأرض، تفرضُ العولمةُ مكراً يسلُب الحياةَ منَ الحياة.
والنشيدُ الشعريُّ يواصلُ سقْي الشجرة، مُقاوماً ما يمنعُه من الانْغراس في ليالينَا ونهَاراتنا. شعراءُ يسْهرونَ على لغة يهدّدها الهبَاء. وفي استمرار نشيدهم يلْتقى المتوحّدُون ليستأنفوا طريقَهم من جديد، وقد غمَرتهُم ظلالُ شجَرة المعنى.
* قُرئ هذا النص في لقاء شعري أقيم في همبرويش الألمانية مؤخراً، وينشر بعدة لغات في كراسة فنية عام 2019