لم تفلح محاولة اللاجئ السوري في ألمانيا أحمد، من أجل طمس صوره والتي يظهر فيها مسلحاً برفقة مجموعة من العناصر التابعين لقوات النظام السوري على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما تمكن لاجئ آخر طلب تعريفه بـ"خالد الشامي" (اسم مستعار خوفا على أقاربه في سورية) من توثيقها والاحتفاظ بها ليقدمها بعد ذلك كدليل إلى جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا.
وانتسب أحمد إلى قسم علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة دمشق، وتطوع في بداية الحراك الشعبي في مارس/آذار من عام 2011 إلى جانب قوات النظام الرديفة أو ما بات يعرف بـ"الشبيحة"، وتركز نشاطه مع بداية الثورة داخل منطقتي القابون وبرزة اللتين شهدتا مطلع عام 2011 مظاهرات سلمية حاشدة ضد النظام، بالإضافة إلى عضويته في الاتحاد الوطني للطلبة، والذي تكفل بقمع المظاهرات في الجامعة والتنكيل بالطلاب، وفق لائحة الاتهامات الموجهة ضد أحمد من قبل الشهود.
وتعد حالة أحمد، المتداولة تفاصيلها أمام القضاء الألماني، واحدة من بين ألف متهم وصلوا إلى أوروبا بعدما ارتكبوا جرائم حرب وانتهاكات متنوعة لحقوق الإنسان في سورية، بحسب ما قاله لـ"العربي الجديد" مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية في برلين المحامي أنور البني، مؤكدا أن مركزه يجمع الأدلة والشهود ضد عدد من المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان في سورية من المتواجدين في ألمانيا من أجل مقاضاتهم أمام المحاكم المختصة.
لقاء في كولن
شهدت محطة القطارات الرئيسية في مدينة كولن الألمانية لقاء خالد الشامي بأحمد، وسرعان ما توجه الشامي لمركز مكافحة الإرهاب في المدينة وتقدم ببلاغ ضده، قائلا: "بعد مشاهدتي أحمد في المحطة لم أسأل نفسي عن المخاطر التي من المحتمل أن أتعرض لها أو عائلتي في حال تقديم بلاغ ضده، تحركت بشكل عفوي لمركز الأمن من أجل رفع الدعوى وتبليغ الجهات المختصة، أضاف "لم أكن أتخيل الالتقاء بأحد شبيحة النظام في ألمانيا، بعد أن هربنا منهم عبر البحر وخاطرنا بحياتنا".
وتمكن الشامي، والذي سبق وأن نشط في تصوير المظاهرات وتوثيق انتهاكات النظام في حي القابون، من اللجوء إلى ألمانيا بعد خروجه من المعتقل عام 2012، ونجح في الوصول إلى أحد سكان حي مساكن برزة، والذي طلب من معد التحقيق تعريفه باسمه الأول كمال خوفا على أقاربه في سورية، إذ أنه من المقرر أن يدلي بشهادته أمام المحكمة عن الأعمال التي ارتكبها أحمد أثناء تواجده في سورية، قائلا لـ"العربي الجديد": "كنت أشاهده على الحواجز العسكرية التابعة لقوات النظام المنتشرة على مداخل الحي من أجل اعتقال المدنيين المعارضين للنظام"، وعبر عرض الصور التي حصلت عليها "العربي الجديد" للمتهم أحمد، أفاد كمال بأن من ظهروا إلى جانب المشتبه به جميعهم من أقاربه، وشاركوا في عمليات اقتحام وتعذيب وقتل للمدنيين في حي القابون.
بالإضافة إلى ما سبق يؤكد الشهود أن أحمد كان ناشطا مع عناصر الاتحاد الوطني لطلاب سورية، والذين كانت لديهم بطاقات أمنية تجيز لهم حمل السلاح داخل أروقة الجامعة، والقيام بعمليات التفتيش ضد الطلاب، حتى أنهم كانوا يبرزون أسلحتهم من أجل بث الرعب في صفوف الطلاب المعارضين، والذين لا يزال مصير بعضهم مجهولا بعد اعتقالهم من قبل عناصر الاتحاد الوطني للطلبة، فيما ظهرت جثث آخرين لاحقا فيما عرف بصور "سيزر"، كما هو الحال مع الطالب في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب أحمد السروجي الذي قتل تحت التعذيب بعد اعتقاله من أجهزة الأمن السورية في دمشق عام 2012.
دوافع اللجوء
لا تزال الأسباب التي دفعت أحمد إلى مغادرة سورية متسللاً الى ألمانيا بصفة لاجئ مجهولة، لا سيما بعد سيطرة النظام الكاملة على العاصمة وانخفاض وتيرة العمليات العسكرية بشكل عام، خاصة وأن عائلة أحمد تتمتع بسلطة واسعة في الحي وفق ما قاله كمال، مشيرا إلى الثروة التي جنتها العائلة نتيجة عمليات السلب واقتحامات منازل المعارضين، ما يدفع بفرضية أن يكون أحمد قد أرسل من أجل التجسس على اللاجئين، وجمع معلومات عن الشخصيات التي تنشط في أوروبا، وفق ما يراه المحامي أنور البني، سيما وأن أفراد عائلته لا يزالون يمارسون مهامهم في سورية بشكل اعتيادي، ويدعو البني السوريين ممن تعرضوا للتعذيب إلى تقديم شهاداتهم لدى القضاء الألماني، مشددا في الوقت نفسه على إمكانية إرسال النظام لعملاء في أوروبا، وتقديمهم معلومات كاذبة من أجل تضليل القضاء الألماني.
وتشبه حالة المتهم أحمد ما كشفه ناشطون سوريون عن محمد سعد الدين، والذي كان يعيش في منطقة "حندرات"، حيث كان ينشط في لواء القدس مع بدء الثورة السورية، والذي ساهم في قمع واعتقال اللاجئين، وهو ما أثار اهتمام المحقق كلاوس تسورن، والذي يتمتع بخبرة سابقة في مجازر سربرنيتسا، ويعمل في المكتب الاتحادي للتحقيقات الجنائية في مدينة بون، إذ أكد أن التحقيقات جارية في بعض الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في سورية، وذلك بحسب الدستور الألماني الذي يسمح بالتحقيق في مثل هذه القضايا على الرغم من ارتكابها خارج البلاد، إضافة إلى أنه في حال تواجد أحد المشتبهين بهم في ألمانيا يحق للسلطات القضائية ملاحقته وتقديمه للمحاكمة.
من جانبه قال المدعي العام الاتحادي بيتر فرانك (في يونيو 2018، حصل على مذكرة توقيف دولية ضد رئيس سلاح المخابرات الجوية السوري السابق جميل الحسن) إن جهات التحقيق الألمانية تأخذ على محمل الجد قضية البحث عن المجرمين الذين تسللوا إلى ألمانيا، والتي لن تكون بلداً آمنا لمن ارتكب جرائم ضد الإنسانية، سواء في سورية أو غيرها، ولا بد من تحملهم المسؤولية عما ارتكبوه من جرائم ضد المدنيين، على حد قوله.
وسبق أن اعتقلت السلطات الألمانية العقيد أنور رسلان 56 عاما، والضابط إياد الغريب 42 عاما في فبراير/شباط الماضي، واللذان غادرا سورية في أواخر عام 2012، على خلفية اتهامهما بتعذيب معتقلين ومتظاهرين ما أدى إلى مقتل العديد منهم، عندما كانا على رأس عملهما في المخابرات السورية ما بين 2011 و2012، ويشتبه في أن الضابط رسلان كان يشغل منصب نائب رئيس فرع التحقيق 251 في إدارة المخابرات العامة في سورية وكان يعمل تحت إمرة العميد حافظ مخلوف، بينما الثاني كانت مهمته الرئيسية القيام بالمداهمات والاعتقال، وجرى القبض عليه في مقاطعة راينلادفلاز في مدينة تسفايبروكين الألمانية، وباشر قاضي التحقيق في المحكمة الفيدرالية تحقيقاته، وبحسب المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية (منظمة غير حكومية ألمانية) يتوقع عقد جلسة لهذه القضية أمام القضاء الألماني في مطلع 2020.
اللافت أن المتورطين في دعم الأسد وانتهاكات حقوق الإنسان يسافرون إلى دمشق من برلين في خط طيران يمر بطهران عبر شركة "ماهان إير" الإيرانية، ومن طهران إلى بيروت عبر شركة أجنحة الشام، ومنها إلى دمشق بواسطة ذات الشركة المدرجة منذ ديسمبر/كانون الأول عام 2016 على قائمة وزارة الخزانة الأميركية للعقوبات الاقتصادية لمساعدتها النظام السوري ومليشياته وقوات الحرس الثوري الإيراني مادياً ولوجستياً وتكنولوجياً، ما يجعلهم في حالة تواصل دائم مع البلد الذي يفترض ألا يزوروه، إذ تنص المادة 25/2 من قانون اللجوء الألماني على أن "كل من يحمل صفة اللجوء الإنساني ويثبت عودته إلى بلده الأم يُعتبر لجوءه لاغياً ويفقد حق الإقامة في البلاد، كون الحجة التي حصل على أساسها على حق اللجوء غير صحيحة".
تفاعل القضية إعلاميا
تتفاعل قضية شبيحة الأسد المتواجدين في ألمانيا على مستويات عدة من بينها الإعلام، إذ عرضت قناة DW فيلماً للمخرج السوري طارق خلو بعنوان تعقب شبيحة الأسد، تناول فيه قضية أحد الشبيحة ويدعى محمد، والذي سيمثل أمام القضاء الألماني بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في مدينة حلب.
المخرج خلو بيّن لـ"العربي الجديد" أن مخاطر تواجد الشبيحة غير خافية عن الجهات الألمانية، نظرا لاستقبال العدد الأكبر من اللاجئين، ما يهدد حياة أقربائهم وعائلاتهم، وخاصة الناشطين الذين تمكنوا من توثيق جرائم القتل والاعتقالات التي تقوم بها أجهزة الأمن والشبيحة، وهو ما تؤيده المخرجة تينا فوكس، والتي سلطت عبر فيلمها "شهادة ضد الأسد" الضوء على الناجين من المعتقلات السورية، والظروف التي تعرضوا لها أثناء عمليات استجوابهم داخل الفروع الأمنية.
وتقول فوكس المهتمة بالشأن السوري، والتي سبق أن نظمت معرضا للمصور العسكري المنشق (القيصر) في مدينة شتوتغارت لـ"العربي الجديد"، لا بد من ملاحقة مجرمي الحرب الذين وصلوا إلى أوروبا وتقديمهم إلى المحاكم المختصة، مشددة في الوقت نفسه على أن إفلات المجرمين من المحاكمة العادلة في ألمانيا يعني تشجعيهم على تكرار جرائمهم في أي مكان.
ومن بين السوريين الناجين من سجون المخابرات خالد رواس، والذي تناول الفيلم كيفية تعرضه للتعذيب داخل الفرع 215، والذي قال لـ"العربي الجديد": "لا يمكن بناء سورية من دون محاكمات عادلة تنصف الضحايا، وتضع المجرمين خلف القضبان، وجود هذا العدد من الشبيحة في ألمانيا يشعرني بالقلق، إذ أنهم يعملون على جمع معلومات عن الناشطين في ألمانيا، وهو ما قد يسمح بابتزازهم أو الضغط على أفراد عائلاتهم في سورية، أو حتى القيام بأعمال تشوه صورة اللاجئين في أوروبا".