شبهة السياسة في "نوبل للآداب"

13 أكتوبر 2015

ليس لسفيتلانا ألكيفيتش هوية أدبية واضحة في كتبها (أ.ف.ب)

+ الخط -
لم تسلم يوماً جائزة نوبل للآداب من شبهة السياسة التي لاحقت متوجين كثيرين بها، خصوصاً في فترة الحرب الباردة، حين شكل النفوذ اليساري والماركسي داخل الأكاديمية السويدية أحد مصادر نقاش الأوساط الأدبية حول أحقية هذا الكاتب أو ذاك في نيل أسمى جائزة أدبية في العالم. ولم يسلم كتاب كبار، لا يكاد أحد يجادل في قيمة منجزهم الإبداعي الرفيع، بعد تتويجهم بها من هذا النقاش، ومن ذلك أن بعضهم يرى أن فوز الشاعر التشيلي الكبير، بابلو نيرودا، بالجائزة عام 1971 لم يكن بعيداً عن انتمائه للحزب الشيوعي، ووقوفه في خندق اليسار، من دون التقليل طبعاً من أهمية منجزه الشعري وعمقه. وقد لاحقت "شبهة" الانتماء لليسار كتاباً آخرين حازوا الجائزة، حتى بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، منهم الإيطالي داريو فـو (1997)، والبرتغالي خوسيه ساراماغو (1998).
وإذا كانت لوائح أكاديمية استوكهولم تنص على أن مداولاتها لا يفرج عنها إلا بعد مرور خمسين سنة، فإن سوسيولوجيا الجوائز الأدبية توفر مداخل قد تتيح للباحث الإمساك ببعض الخيوط في هذا الصدد، بتقصّي آلية تشكيل اللجان، والانحيازات الجمالية والفنية لأعضائها، وعلاقاتهم بالصحافة الثقافية وشبكات النفوذ المتعددة. من هنا، يرى بعضهم أن فوز كتابٍ كثيرين بجائزة نوبل للآداب، على امتداد العقود الماضية، يظل على صلة بامتدادات التأثير الشيوعي داخل محيط الأكاديمية السويدية، وهو ما كان يتم عبر شبكة نفوذ قوية، تقودها بعض قوى اليسار، في مقدمتها اللوبي الكوبي والأحزاب الشيوعية في الدول التي فاز كتابها بالجائزة، خصوصاً في أميركا اللاتينية. ولعل ما يعزز ذلك تجاهل الأكاديمية السويدية كاتباً عملاقاً هو الأرجنتيني، خورخي بورخيس، وحرمانه من نيل الجائزة، بسبب ميوله اليمينية التي كان لا يتحرّج في التعبير عنها بصراحة، فيما فاز بها كتاب معاصرون له أقل منه موهبة وعطاء.
مناسبة هذا الكلام فوز الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا ألكسيفيتش، بجائزة نوبل للآداب هذه السنة، وإذا كانت هذه الجائزة عادة ما تُمنح لكتاب راكموا رصيداً أدبياً غزيراً ونوعياً، يشكل، في معظمه، إضافة نوعية ووازنة للآداب التي ينتمون إليها، إلا أن رصيد الفائزة لا يتجاوز ستة كتب، فكيف يمكن قراءة هذا التحول في اختيار الأكاديمية السويدية صحافية لمنحها أرفع جائزة أدبية في العالم؟ وهل أصبحت مخوّلة بإضفاء الشرعية على أشكال كتابية معينة، يُثار نقاش بشأن مدى انتمائها لمجال الأدب؟

ليس لهذه الكاتبة هوية أدبية واضحة بالمعنى المتعارف عليه. فهي صحافية، قادها حسّها المهني العالي إلى التخصص في ما يسميه بعضهم التحقيق الأدبي، الذي يشتبك فيه الأدب بالتوثيق الصحافي الاستقصائي، ضمن أفقٍ يعمل على اجتذاب القارئ بواسطة أسلوب يجمع بين القوة والسلاسة في سرد الوقائع والأحداث، وذلك كله من خلال شهادات حية لأشخاص عاينوا بألم وحرقة انتكاسة الحلم الروسي طوال العقود المنصرمة، بدءاً بالحرب العالمية الثانية وانتهاء بغزو أفغانستان والتفكك الدراماتيكي للإمبراطورية الحمراء في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. تستدعي سفيتلانا هذا الحلمَ في كتاباتها لتسائله، وتعيد قراءته في ضوء تحولاته وانتكاساته الفعلية و(المحتملة أيضا!).
هل يمكن أن نجازف بالقول إن تتويجها ذو علاقة، بشكل أو بآخر، بانزعاج الغرب من سعي الروس الدؤوب إلى لعب دور أكبر من المطلوب منهم، خصوصا في مناطق حساسة، مثل آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وهو أمر يدفع التدخل الروسي في سورية إلى دائرة المبررات و(المعايير!) التي ربما تكون قد اعتمدتها الأكاديمية، أو استحضرتها في منحها الجائزة لهذه الكاتبة؟ هل يمكن اعتبار هذا التتويج دعوة إلى موسكو لقراءة التاريخ القريب، وأخذ العبر من منعرجاته، باستعادة التجربة السوفييتية المريرة في أفغانستان، والعمل على عدم تكرارها في سورية، تجنبا للوقوع في شراك "الزمن المستعمل" (عنوان أحد كتبها)؟ ربما نجد بعض ارتدادات هذه الأسئلة في كتاب صدر للكاتبة مع بداية التسعينيات "فتيان في الزنك"، عن الكلفة الإنسانية والوجدانية الثقيلة للغزو السوفييتي لأفغانستان الذي استمر حوالي عشر سنوات، وهو شهادات صادمة ودامعة، استقتها الكاتبة من قدامى الجنود وأمهات وزوجات وأبناء القتلى الذي سقطوا في حربٍ لم تكن حربهم، ثم نقلوا في توابيت إلى قراهم وبلداتهم، ليدفنوا في صمت. على ضوء هذا، نفهم ذلك العداء الذي لا تخفيه الكاتبة حيال الإرث السوفييتي الأحمر، والتي تعتقد أنه ما زال كامناً في اللاوعي الجماعي للروس.
تتويج سفيتلانا ألكسيفيتش (المولودة في أوكرانيا!) يبدو بنكهة سياسية، لا تخطئها الملاحظة. ففضلا عن تزامنه مع السياق الذي أفرزته الأزمة الأوكرانية وتداعيات التدخل الروسي في سورية، فهو بمثابة "التفاتة دالة" من أكاديمية استوكهولم لأحد أهم الأصوات المعارضة داخل ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي لسياسات روسيا الداخلية والإقليمية والدولية.