24 أكتوبر 2024
شبح دولة بوليسية في تونس
عندما اندلعت أحداث الثورة التونسية في ديسمبر/ كانون الأول 2010، كان الغضب الشعبي من التسلط الأمني عاملا مؤثرا في تأجيجها واستمراريتها. حيث لم يكن الجهاز الأمني بعيدا عن الأحداث التي رافقت الثورة، وكانت تدخلاته تتسم بجانب كبير من الشدة والعنف ضد الجمهور. وقد أضيفت إلى هذا الفعل الممارسات التي تراكمت في الوجدان الشعبي بشأن طرق عمل الأجهزة الأمنية، وتعاملها اللاإنساني مع المعارضة السياسية بمختلف أطيافها، وهو ما ترتب عنه حرق مراكز أمنية كثيرة.
بعد الثورة، كان الجهاز الأمني أحد أكبر المستفيدين من التحول السياسي في البلاد، خصوصا من حيث تمتعه بحقوق وامتيازات لم يعرفها من قبل. فقد تشكلت نقابات أمنية في سابقةٍ لم تعرفها تونس والمنطقة العربية، وتحولت هذه النقابات من العمل المطلبي القائم على تحسين ظروف عمل منتسبيها، لتصبح عبئا على المشهد السياسي، من خلال تدخلها في قضايا السياسة، بل وانحيازها أحيانا لأجندات حزبية، وخدمتها لحسابات سياسوية ضيقة.
تجري اليوم محاولة تمرير قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين، وقد تحولت قضية رأي عام، خصوصا أن مشروع القانون تضمن فصولا تزيد من تسلط رجل البوليس. وتعود صيغته الأولى إلى سنة 2015، وتحاول الأطراف الأمنية أخيرا الضغط لتمريره، بوصفه قانونا ملزما يضمن الحماية الضرورية للقوات الحاملة للسلاح. وتكشف كل مراجعة له عن مواد تخالف الدستور التونسي، بل وتهدّد منظومة الحقوق والحريات الهشّة التي يتم إرساء أسسها بعد الثورة. فالفصل 18 من مشروع القانون يمنح المشروعية للإفلات من العقاب، للأمني الذي يستخدم القوة التي تفضي إلى الموت أو العجز، معللا ذلك بأنه في إطار حماية الأرواح والممتلكات، غير أن لا أحد يضمن أن لا تتواتر الأخطاء في استخدام العنف المفرط، والتي سيتم تبريرها تحت الأسباب نفسها بنص القانون. كما جاء القانون متضمنا فصلا يحد من حرية العمل الصحافي وتداول المعلومات، حيث يفيد بأن كل المعلومات المتعلقة بالأمن في تونس
تعتبر أسرارا لا يمكن استعمالها أو مسكها أو تداولها بأي وسيلة، ما يعني ضمنا ممارسة أشكالٍ من الرقابة والتعتيم على النشاط الصحافي، ومنع كل الأعمال الاستقصائية في هذا المجال.
ويذهب مشروع القانون إلى الحد الأقصى في نزعته الزّجرية، عندما يرد في الفصل الثاني عشر منه "يُعاقب بالسجن مدة عامين، وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار، كل من تعمد تحقير القوات المسلحة قصد الإضرار بالأمن العام"، فعلاوة على شدة العقوبة، يمكن ملاحظة عدم وضوح مدلول لفظ "تحقير"، حيث يمكن لتدوينة صغيرة أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تأخذ صاحبها إلى السجن، إذا تم تفسير ما ورد فيها تحقيرا للقوات حاملة السلاح، ما يعني، بصورة أخرى، فرض حالة من الصمت وتكميم الأفواه من خلال الرقابة التي ستشمل الصحف ووسائل الإعلام، وتمتد نحو منصات التواصل الاجتماعي في صورة ما إذا تم إقرار هذه القانون بصيغته الحالية.
حاول الذين أعدّوا نسخة مشروع القانون إيجاد مبرّراتٍ نظرية للطبيعة الزجرية التي يقوم عليها، بالقول إن دولا عديدة تولت "في إطار تشريعاتها الجزائية، وضع أحكام زجرية بغرض حماية السلطة العامة وأعوانها، وخاصة القوات المسلحة، وحماية مقرّاتها ومنشآتها وتجهيزاتها وردع الاعتداءات المسلطة عليها، حفاظا على أمن المجتمع واستقراره، خلافا للتشريع التونسي الذي لازال يشكو نقائص عديدة في هذا المجال". ولا يبدو هذا التبرير كافيا لإقناع المنظمات الحقوقية والأحزاب والقوى الشبابية في الشارع التونسي التي رفضت تمرير مشروع القانون بصيغته الحالية، باعتباره يمثل تهديدا فعليا لمنظومة الحقوق والحريات، وردّةً فعليةً عن مكاسب الديمقراطية التي تمت مراكمتها منذ الثورة التي أطاحت زين العابدين بن علي. ذلك أن القانون التونسي العادي يتضمن ما يكفي من التشريعات لحماية الأمنيين والقوات الحاملة للسلاح.
تثير محاولة بناء نظام قانوني يمنح الأجهزة البوليسية صلاحيات أوسع، ويسعى إلى التضييق علنا على هامش الحريات، مخاوف مشروعة من إطلالة شبح الدولة البوليسية بكل مزالقها، وما يقترن بها من ممارساتٍ قد تحيل إلى زمن الطغيان. وربما كان الضامن الوحيد ضد كل محاولة للارتداد إلى زمن الاستبداد هو وعي المواطن التونسي أولا، ثم الانتشار الواسع للمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية التي تقوم بجهد واضح في كشف كل انتهاكٍ ممكن لمنظومة الحقوق والحريات، من دون أن يعني هذا استبعاد إمكانية حصول تجاوزات وانتهاكات لحقوق المواطن، مهما كانت خلفيتها، سياسية أو اجتماعية.
بعد الثورة، كان الجهاز الأمني أحد أكبر المستفيدين من التحول السياسي في البلاد، خصوصا من حيث تمتعه بحقوق وامتيازات لم يعرفها من قبل. فقد تشكلت نقابات أمنية في سابقةٍ لم تعرفها تونس والمنطقة العربية، وتحولت هذه النقابات من العمل المطلبي القائم على تحسين ظروف عمل منتسبيها، لتصبح عبئا على المشهد السياسي، من خلال تدخلها في قضايا السياسة، بل وانحيازها أحيانا لأجندات حزبية، وخدمتها لحسابات سياسوية ضيقة.
تجري اليوم محاولة تمرير قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين، وقد تحولت قضية رأي عام، خصوصا أن مشروع القانون تضمن فصولا تزيد من تسلط رجل البوليس. وتعود صيغته الأولى إلى سنة 2015، وتحاول الأطراف الأمنية أخيرا الضغط لتمريره، بوصفه قانونا ملزما يضمن الحماية الضرورية للقوات الحاملة للسلاح. وتكشف كل مراجعة له عن مواد تخالف الدستور التونسي، بل وتهدّد منظومة الحقوق والحريات الهشّة التي يتم إرساء أسسها بعد الثورة. فالفصل 18 من مشروع القانون يمنح المشروعية للإفلات من العقاب، للأمني الذي يستخدم القوة التي تفضي إلى الموت أو العجز، معللا ذلك بأنه في إطار حماية الأرواح والممتلكات، غير أن لا أحد يضمن أن لا تتواتر الأخطاء في استخدام العنف المفرط، والتي سيتم تبريرها تحت الأسباب نفسها بنص القانون. كما جاء القانون متضمنا فصلا يحد من حرية العمل الصحافي وتداول المعلومات، حيث يفيد بأن كل المعلومات المتعلقة بالأمن في تونس
ويذهب مشروع القانون إلى الحد الأقصى في نزعته الزّجرية، عندما يرد في الفصل الثاني عشر منه "يُعاقب بالسجن مدة عامين، وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار، كل من تعمد تحقير القوات المسلحة قصد الإضرار بالأمن العام"، فعلاوة على شدة العقوبة، يمكن ملاحظة عدم وضوح مدلول لفظ "تحقير"، حيث يمكن لتدوينة صغيرة أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تأخذ صاحبها إلى السجن، إذا تم تفسير ما ورد فيها تحقيرا للقوات حاملة السلاح، ما يعني، بصورة أخرى، فرض حالة من الصمت وتكميم الأفواه من خلال الرقابة التي ستشمل الصحف ووسائل الإعلام، وتمتد نحو منصات التواصل الاجتماعي في صورة ما إذا تم إقرار هذه القانون بصيغته الحالية.
حاول الذين أعدّوا نسخة مشروع القانون إيجاد مبرّراتٍ نظرية للطبيعة الزجرية التي يقوم عليها، بالقول إن دولا عديدة تولت "في إطار تشريعاتها الجزائية، وضع أحكام زجرية بغرض حماية السلطة العامة وأعوانها، وخاصة القوات المسلحة، وحماية مقرّاتها ومنشآتها وتجهيزاتها وردع الاعتداءات المسلطة عليها، حفاظا على أمن المجتمع واستقراره، خلافا للتشريع التونسي الذي لازال يشكو نقائص عديدة في هذا المجال". ولا يبدو هذا التبرير كافيا لإقناع المنظمات الحقوقية والأحزاب والقوى الشبابية في الشارع التونسي التي رفضت تمرير مشروع القانون بصيغته الحالية، باعتباره يمثل تهديدا فعليا لمنظومة الحقوق والحريات، وردّةً فعليةً عن مكاسب الديمقراطية التي تمت مراكمتها منذ الثورة التي أطاحت زين العابدين بن علي. ذلك أن القانون التونسي العادي يتضمن ما يكفي من التشريعات لحماية الأمنيين والقوات الحاملة للسلاح.
تثير محاولة بناء نظام قانوني يمنح الأجهزة البوليسية صلاحيات أوسع، ويسعى إلى التضييق علنا على هامش الحريات، مخاوف مشروعة من إطلالة شبح الدولة البوليسية بكل مزالقها، وما يقترن بها من ممارساتٍ قد تحيل إلى زمن الطغيان. وربما كان الضامن الوحيد ضد كل محاولة للارتداد إلى زمن الاستبداد هو وعي المواطن التونسي أولا، ثم الانتشار الواسع للمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية التي تقوم بجهد واضح في كشف كل انتهاكٍ ممكن لمنظومة الحقوق والحريات، من دون أن يعني هذا استبعاد إمكانية حصول تجاوزات وانتهاكات لحقوق المواطن، مهما كانت خلفيتها، سياسية أو اجتماعية.