في كلّ يوم، تعتقل السلطات السورية شباناً تعدّهم "هاربين" من الخدمة العسكرية. إلى هؤلاء، ثمّة آخرون نجحوا في ترك سورية وبالتالي في الإفلات من تلك "المحنة". أمّا الأهل فيشجّعون أبناءهم على الهجرة، وفي قلوبهم غصّة.
يبدو أن شبح الخدمة العسكرية الإلزامية وتلك الاحتياطية سيبقى يطارد الشبان السوريين ليهجّرهم من وطنهم. وقد بدا الأمر أكثر وضوحاً خلال الأعوام السبعة الماضية، إذ صار الشغل الشاغل للشبان خروجهم من البلاد قبل أن يُطلبوا للخدمة ويتحوّلوا إلى ملاحقين أمنياً وتُشل حركتهم. والذين تركوا البلاد يميلون بالتالي إلى خيار اللاعودة.
مأمون شاب جامعي ترك سورية في عام 2014 بعد اعتقاله لمدّة ستّة أشهر على خلفيّة احتواء هاتفه النقّال على تسجيل فيديو لأحد الفصائل العسكرية وهو يقتحم إحدى مناطق النظام. منذ ذلك الحين، لم يزر سورية إلا مرّة واحدة خضع خلالها لامتحانات في ما تبقّي له من مواد دراسية. يقول: "بقيت أرسل سندات إقامة لأربعة أعوام من أجل تأجيل الخدمة العسكرية. واليوم، بعدما حان موعد دفع البدل النقدي البالغ نحو ثمانية آلاف دولار أميركي، قررت ألا أعود إلى سورية". يضيف: "لماذا أدفع هذا المبلغ الكبير وأنا لا أشعر بالأمان. قرّرت أن أهاجر، وعندما أشتاق لأفراد عائلتي أستطيع أن ألتقي بهم في إحدى دول الجوار. هم كلّ ما تبقّى لي في البلاد".
أمّا مجد فيسأل: "لماذا أدفع ثمانية آلاف دولار، أي نحو 3.6 ملايين ليرة؟ القاعدة التي كانت متبعة هي أن يساوي البدل راتب متطوّع بالرتبة ذاتها لمدّة الخدمة، وأنا مثلاً خدمتي سوف تكون برتبة ملازم ولمدة عام ونصف العام، بالتالي لا يجب أن يتجاوز البدل مليون ليرة سورية (نحو 2200 دولار) كحدّ أقصى. يبدو أنّهم يحتسبون بدل الخدمة النظامية بالإضافة إلى بدل الخدمة الاحتياطية التي تزيد عن سبعة أعوام". يضيف مجد: "لولا الخدمة العسكرية لبقيت في البلاد، ولو كان ثمّة بدل داخلي كنت بقيت كذلك في سورية مع عائلتي. لكنّ النظام حكم علينا بالموت أو الهجرة. لو فكّر قليلاً أصحاب القرار ما تخسره البلاد مع خروج شبانها وما يتركه الأمر من آثار نفسية فيهم وفي عائلاتهم، لعرفوا حجم الكارثة التي يتسبّبون فيها. لكن يبدو أنّ كل ما يعنيهم هو تمويل حربهم من جيوبنا".
من جهته، اختار جابر، وهو مهندس في إحدى دول الخليج العربي، الهجرة، بعدما علم بأنّه مطلوب للخدمة الاحتياطية على الرغم من أنّه أنهى خدمته العسكرية قبل نحو 15 عاماً. يقول: "لم يكن أمامي خيار سوى الهجرة. فالحياة في دول الخليج لم تعد مستقرّة والعودة إلى الوطن تعني دمار عائلتي. وإذا التحقت بالجيش، كيف يمكنني العيش بأربعين ألف ليرة (نحو 90 دولاراً)؟ اليوم، أرسل لهم 500 ألف ليرة (نحو 1100 دولار) وبالكاد تكفيهم حتى نهاية الشهر". يضيف جابر أنّ "كل شيء في البلاد يتراجع، خصوصاً التعليم، لذلك قررت إنقاذ عائلتي واللجوء إلى أوروبا. قبل أشهر قليلة، زرت لبنان والتقيت بعائلتي بعد مرور نحو 10 أعوام على لقائنا الأخير. واليوم لا أعرف متى يمكنني أن ألتقيهم مرّة أخرى". يتابع: "لا أعتقد أنّني سوف أعود أو أحد من أبنائي لزيارة سورية، طالما واقع البلد على حاله. كذلك، لن يعود أبنائي ليخدموا العسكرية".
في السياق، يخبر أبو وجدي، وهو موظف متقاعد، أنّه "قبل عامَين، عشت أياماً كثيرة من القلق حتى أمّنت لابني البكر مبلغ 4300 دولار أميركي ليتمكّن من الوصول إلى أوروبا ويحصل على لجوء في أحد بلدانها، قبل أن يُطلب للخدمة العسكرية. وبالفعل وصل وحصل على اللجوء". يضيف أنّ "الهمّ عاد اليوم إليّ، إذ اقترب طلب ابني الثاني للخدمة. ومع صعوبة الوصول إلى أوروبا عبر طرق التهريب، فإنّني أحاول أن أحصل له على قبول جامعي ليكمل دراسته". ويتابع أبو وجدي: "يبدو أنّني لن أرتاح قبل أن يسافر أبنائي جميعهم. لطالما أحببت العائلة وتخيّلت أن أقضي سنوات عمري بين أحفادي، لكنّني سوف أبقى على الأرجح وحيداً مع زوجتي. لا أعلم إن كنت سأراهم قبل موتي، وهذا أمر يحزنني، لكنّني عندما أتذكّر بأنّهم سوف ينجون من المحرقة التي تلتهم الشبان هنا، أشكر الله على نعمة سفرهم". ويشير إلى أنّ "جاري أبو محمود يعاني من جرّاء فقدان ابنه في المعارك. هو لا يعلم مصيره حتى اليوم. أمّا جاري الآخر أبو يوسف، فأبناؤه الأربعة يقبعون في البيت لأنهم جميعاً مطلوبون للخدمة العسكرية".
أمّا أبو طارق فيبدو مرتاحاً لأنّ "ولدي الذي تخرج قبل أشهر من كلية الهندسة المعلوماتية، سافر إلى إحدى دول الخليج العربي. ويقول: "سفر ابني طارق كلّفني مبلغاً كبيراً، جمعته من خلال الاستدانة، وقد بعت كذلك حليّ والدته. على الرغم من ذلك لست نادماً، فهو تخلّص بذلك من الخدمة". ويأمل بأن "يجد وظيفة لقاء راتب جيّد يغنيه عن الوقوف في الشارع صيفاً شتاءً ليؤمّن احتياجات عائلته اليومية".