شباب تونس يبتعد عن السياسة

06 ديسمبر 2015
+ الخط -
تجمع تقارير الإحصائية ومتابعات على ضعف انخراط الشباب التونسي في النشاط السياسي، على الرغم مما يبديه من اهتمام بمجرياتها، ومن ثقة في الديمقراطية نظاماً سياسياً بديلاً عن الاستبداد. وقد أفاد استبيان أنجزته منظمة "أنا يقظ" بأنّ أكثر من 80% من الشباب مقتنعون بأهمية الديمقراطية التشاركية، وأن 66% كانوا قد تابعوا أشغال المجلس الوطني التأسيسي، وأنّ 52% مهتمون بالسياسة، و5% فقط من هؤلاء ينشطون بالأحزاب. وقد انتقل الشباب التونسي، سريعاً، من الحركة والفاعلية والقدرة على التأثير في مسار العملية السياسية خلال الحراك الثوري، من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 حتى 15 يوليو/تموز 2011 (تاريخ محاولة تنظيم اعتصام القصبة 3 وقمع السلطة له)، إلى العزوف، وإلى ما يمكن اعتباره مقاطعة للعمل السّياسي، إثر انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
ويدفع تغيّر موقعٍ الشباب في المشهد السياسي من الصدارة إلى الهامش، بتغيّر قاعدة الفعل من الفعل الجماهيري المفتوح غير الخاضع للقيادة إلى الفعل الحزبي، إلى الاعتقاد بأن الشّباب لا يرفض العمل السياسي، بقدر ما يرفض الاندماج ضمن الخارطة السياسية، بما هي عليه. ويبدو أن متابعة الشباب التونسي الشأن السياسي كانت تزيده، بمرور الوقت، بعداً عن الانخراط الفعلي في الحياة السياسية، وعزلة عن الطبقة السياسية، بمختلف مكوناتها، كان هذا واضحاً من خلال عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسيّة الماضية (أكتوبر – نوفمبر 2014).
وإلى الشعور بالحذر من كل ما يتعلق بالسلطة والحكم لدى الشباب، مثّلت القيود التي كان يفرضها الاستبداد على الحياة السياسية حاجزاً بين النخب السياسية المعارضة لنظام بن علي والمجتمع التونسي، ولا سيّما جيل الشّباب الذي نشأت أغلبيته الساحقة، بينما كانت تلك النخب بين سجين ومنفيّ ومحاصر. انعكست هذه القطيعة القسريّة على قدرة تلك النخب على التواصل مع الشّباب واستيعاب مشاغلهم وأولوياتهم، وأيضا على قدرة الشباب على منح ثقته لهؤلاء الذين ظهروا فجأة بعد سقوط بن علي "للركوب على الثورة"، والوصول إلى السلطة كما قيل. وقد مثّل هذا السّياق بداية القطيعة التي زادها السلوك السياسي للأحزاب والحكومات المتعاقبة عمقاً واتّساعا.
وكان من الواضح في السنوات التي تلت الثورة أن مضمون الصراع السياسي في تونس كان بعيداً تماماً عن الشعارات السياسية والاجتماعية التي رفعها الشارع الثائر، والتي كانت تلخّص، بشكل ما، تطلّعات الشباب التونسي، وأولويّاته. لم يكن الصراع السياسي في تونس، مثلاً، حول رؤى تتعلق بسياسات التشغيل أو التنمية أو إصلاح المؤسّسات، بل كان صراعاً محموماً حول خلافة النّظام السابق، بشحنة هويّاتية وثقافيّة مرتفعة، في غياب شبه كامل للبرامج السياسيّة الجديّة التي تتنافس في الاستجابة لاستحقاقات الثورة. بينما كان الشباب التونسي يتطلّع إلى التغيير وبناء المستقبل، كانت النخب السياسية التونسية تخوض صراعاً مؤجّلا نشأ في الجامعات منذ السبعينيّات، حال الاستبداد بينهم وبين استكماله.
سجّل الشباب التونسي بانتباه ما اتّسم به أداء السياسيّين من ارتباك وغياب للرؤى والبرامج، وانهماكهم في صراعهم المفرغ من أي مضمون سياسي، يتماهى مع اهتمامات الشباب الذّين حافظوا خلال تقييمهم للعملية السياسية على سلّم الأولويات الذي نادت به الثورة، فيما كان السياسيّون يحدّدون أولوية بعد أخرى، من دون تحقيق أيّ منها. وقد أوضح تقرير "أنا يقظ" أنّ أولويات الشباب على التوالي: التشغيل ثم التنمية ثمّ مقاومة الإرهاب، وهو ما يتناقض مع أولويات السياسيّين التي تتصدّرها مقاومة الإرهاب.
كما أن واقع الأحزاب السياسيّة التونسيّة، من حيث إدارتها، يمثّل سبباً مهمّاً يفسّر الظاهرة، على الأقلّ باعتبار عجزها عن علاج الظاهرة وفقدانها أدواته، فهذه الأحزاب إمّا "انشطاريّة" غير مستقرّة ذات "ضغط زعاماتي عال" قابلة للانفجار في كل لحظة، وغير مؤهّله لحمل المشاريع السياسيّة الكبرى، أو امتدادا للنظام القديم، وهذا كاف لاستمرار عزلتها عن الشباب، وإمّا أجساما ضخمة ومترهّلة، تخضع لمعايير الأقدمية والولاء، فرص الشباب للتغيير أو التعديل داخلها منعدمة تقريباً، الأمر الذي يتّضح من خلال تغييب الشباب عن مواقع القيادة والقرار، ويتمّ استيعابهم ضمن بيروقراطيّة حزبيّة، توفّر بيئة ملائمة لتفشّي الانتهازية، أو العودة للالتحاق بالأغلبية المقاطعة للأحزاب.
لم يُكتب للحركة الثورية الشّابة أن تفرز نخبها التي تعبّر عن طموحات الشباب المطالب بالتغيير، وتترجمها إلى برامج سياسيّة، واستُدرج الشباب إلى خوض المعركة حول الهويّة التي اشتعلت نارها في الأشهر التي تلت اعتصام القصبة 2، وسبقت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وانخرط فيها الإعلام والمكونات السياسية الكبرى، وانحرفت بالجميع عن استحقاقات الثورة، وكان من نتائجها المباشرة فشل اعتصام القصبة 3 آخر محاولات الحفاظ على الزخم الثوري. لكنّ الحاجة اليوم لأشكال تنظيمية جديدة، تستجيب لطموحات الشباب، كما عبّرت عنها ثورة 17 ديسمبر، يبادر اليها الشباب أنفسهم تبدو ملحّة. خروج الشباب التونسي الذي آمن بالثورة وانخرط فيها من منطقة البرزخ السياسي بين الاهتمام والمشاركة الفعلية يمكن أن يمثّل فرصة جديدة لإنهاء حالة السلبية، وانعدام التأثير التي يعيشها الشباب التونسي، وتخلّص المشهد السياسي من حالة الرداءة التي تطغى عليه.

20228CB4-E26A-414C-83DE-9217D6C56543
أمان الله الجوهري

ناشط ومدون تونسي