من لم يدرك أننا نعيشُ اليوم في حضارةٍ إنسانيةٍ جديدة، يهيمن عليها عملاقٌ ذو أربعة رؤوس، يُطلق عليه غافا: غوغل، وآبل، وفيسبوك، وأمازون؟ يُقضِّي إنسانُ اليوم أكثر من متوسط نصف وقته الرقمي داخل الفضاءات الأربعة لهذا العملاق. وزنه المالي أكثر من وزن الأربعين شركة الأولى في البورصة، ومعدل نموه أكبر من معدل نمو الصين. ومع ذلك، لم تتأسّس شركاته الأربع إلا في هذا القرن الجديد أو في نهاية سابقه. ثاني أغنى هذه الرؤوس وأكثرها إثارة للدهشة: غوغل، أو "مُنظِّم معلومات الكرة الأرضية" كما يطلق على نفسه.
غوغل إمبراطورية خلقها طالِبان، من وحي معادلة رياضية اخترعاها عندما كانا في جامعة ستانفورد، في 1995، وكانا في أوائل العشرينيات من عمريهما ؛ يتكئ غوغل على فهرسٍ شاسع، موزَّعٍ على أكثر من مليون كمبيوتر في أنحاء مختلفة من المعمورة. الفهرسُ عبارةٌ عن قائمةٍ بكلِّ كلمات كلِّ اللغات. بجانب كل كلمةٍ قائمةٌ بكل روابط صفحات الإنترنت التي تحتوي على هذه الكلمة. قبل غوغل، عندما كان السائلُ يبحث في محركات الأبحاث الأنترنيتية عن "البيت الأبيض" مثلاً، كان موقع البيت الأبيض يصل إليه بعد خمسين جوابًا، بينما غالبًا لا ينظر المرء إلا إلى العشر أو العشرين الإجابة الأولى.
فكرة غوغل الرئيسة: ترتيب روابط الفهرس، لكلِّ كلمة، حسب درجة "شعبية" صفحة الرابط، بدءًا بالصفحة الأكثر شعبية.
اخترَع مؤسسا غوغل مفهوماً ألمعيّاً عميقاً للشعبية، يمنع الغشّ: شعبية أية صفحة تتناسب طرديًا مع عدد الصفحات الشعبية التي تحتوي على رابطها.
حيُّ غوغل في وادي السيلكون بكاليفورنيا ثكنةٌ ممنوعة الدخول إلا لموظفيه، وللواجهات الدوليّة الكبرى: (عربيّاً، زارته رانيا ملكة الأردن). وتشبه مشاريع الأبحاث التي تنمو بسريّة في مختبراته المحصّنة مشاريع الخيال العلمي.
ما يميِّز حضارتنا الجديدة أيضاً: لِسلطةِ المال فيها دورٌ أفتكُ من أدواره في حضاراتنا السابقة. إذ مرتعُها الجديد: كلّ الكرة الأرضية، بفضل إحدى أخطر كلمات قاموس الحضارة الجديدة: العولمة.
اقرأ أيضاً: أبو يعرب المرزوقي.. استئناف مغامرة التفكير
ففي الفضاء الاقتصادي لحضارتنا المعولمة: آلاف مليارات الدولارات الافتراضية تطير كلّ لحظة، من طرف الأرض لطرفها الآخر بلمحة بصر، لا تعرف حدوداً أو حواجز. جشع الأسواق الماليّة فيه، هاويةٌ بلا قاع، تخنقُ إنسانَ اليوم وتُدمِّره: تجيدُ، في ضوء "علم الفقاعات المالية وانفجاراتها"، اختلاق الأزمات والسلع المالية المسمّمة التي تطيح بحياة مليارات من بسطاء الأرض، لِتخْرُج هي بعدها بمئات مليارات الدولارات من الأرباح الإضافية.
الموقع السياسي للقوى المالية في حضارتنا الجديدة، التي تديَّنت من طرف الأرض لطرفها بدين الليبرالية الاقتصادية، أكثر نفوذاً من قبل: تقود هذه القوى العالمَ "بوجهٍ لا مرئيّ". ولا يتجرأُ القادة السياسيون اتخاذ قرارٍ ضدّها. لا تخدم الاقتصاد، بل تستخدمه لِمصالحها الأنانية في الكسب الرخيص الفاحش. حتّى المجالُ العلمي صار اليوم أسيرَ قوى المال: هي من تُحدِّد سنويّاً أولوية مواضيع الأبحاث العلميّة وكميّة دعمها المالي، لِخدمةِ حاجاتها المباشرة.
الخاسر الكبير في ذلك: البحث العلمي النظري الذي لا يرتبط بتطبيقاتٍ ذات مردود ماليٍّ مباشر. خطيرٌ ذلك، لأن كثيراً من الاكتشافات العلمية التي غيّرت حياة البشرية أتتْ بفضل نتائج نظريّة سبقتها بعقود، لم ترتبط بحوثها، بالضرورة، بتطبيقاتٍ عملية: كان هدفها التطوير النظري للمعرفة الإنسانية لا غير.
تغيّر أيضًا شكل اقتصاد الحضارة الحديثة: بجانب الاقتصاد الإنتاجي، يسود اليوم "الاقتصادُ التلقيحي": اقتصادٌ معرفيّ، تفاعليّ، نموذجه اقتصاد غوغل وفيسبوك، واستعارته: دور النحل التلقيحي للنباتات أهمُّ بكثير من دورها في إنتاج العسل.
ليس غريباً في هذا النموذج الاقتصادي ألا تكون قيمةُ الإنسان مرهونةً بذكائه وشهاداته، لكن بـ "دفتر عناوينه": قائمة الأشخاص المهمّين الذين تربطه علاقةٌ بهم، ويستطيع التأثير عليهم، و"تلقيحهم". صار ذلك الاختيار أكثر أهمية اليوم في تعيينات مستشاري رؤساء الدول وكبار النافذين. ولعلّه يتسلّل أيضاً، لسوء الحظ، ولو ببطء، في المجالات الأخرى، كالتعيينات والترقيات العلمية أحياناً.
اقرأ أيضاً: الصرخة: من حضارة الأزتك إلى سقف العالم
ما يزيد اليوم من جبروت القوى المالية وسطوتها أضعافاً مضاعفة: هرمونات تكنولوجيا المعلومات، والإبداع التجديدي في الأبحاث العلمية: بنوك الدنيا تتحدّثُ اليوم اللغة نفسها، تستخدم صيغ البيانات والبرامج الكمبيوترية نفسها: يكتب موظف البنك في فرانكفورت سطراً من برنامج الكمبيوتر قبل مغادرته المكتب في المساء، ليواصله زميله بعد دقائق فقط، في سيدني التي تستيقظ من النوم. فقد صارت سرعة تبادل المعلومات المالية أسرع من قبل 7 سنوات فقط بمليون مرّة. وسبعون بالمائة ممن يقومون بالمضاربات المالية هم برامج كمبيوتر ذكيّة، ذهبية الثمن، تدرس تاريخ الشركات التي تضارب على أسهمها، وتطوّرات كلِّ مؤشراتها بلمحة بصر. والبقية أو "الحلزونات البطيئة"، فهم جيوش رجال المال المرابضين في البورصات بأعين ملتصقة على شاشاتها، بهواتفهم الجوّالة المحمومة، وأصابعهم التي تلهث على لوحات مفاتيح كمبيوتراتهم. أوّل درس يتعلمه هؤلاء المقاتلون: "الوقت من ذهب" و"السرعة سلطة". من يسبق الآخر بِنَانو ثانية يكسب السوق. ولكسب هذه النانو ثانية لا يقف في وجه قوى المال حائل: تغرس حالياً شركة هيبرنيا ألياف ضوئية تعبر المحيط الأطلسي لربط أميركا بأوروبا، في طريقٍ أقصر من الطريق الحالية، طولها 4600 كيلومتر، تسمح لعملاء الشركة بكسبِ 3 في الألف من الثانية، وسبقِ الجميع أثناء الاختيارات في أسواق البورصة.
علامةٌ جديدة في العلاقة الغرامية بين قوى المال وتكنولوجيا المعلومات: روت بوراك، المديرة المالية لبنك الأعمال الأميركي مورغان ستانلي، و"أعتى امرأة في وول ستريت"، تستقيل من عملها وتسافر إلى كاليفورنيا هذا الشهر، لتصبح المديرة المالية لشركة غوغل. تستلم حال وصولها "علاوة ترحيب": سبعون مليون دولار. مهامٌ كثيرة تنتظرها، بينها تشغيل 60 مليار دولار نائمة، في مشاريع جديدة. الرمز الأهم هنا: يعتبر المحلِّلون انتقالها علامة من علامات هذا العصر الذي تذوب فيه السلطة المالية في أحضان سلطة تكنولوجيا المعلومات. سؤال: هل حضارتنا الإنسانية الجديدة أرقى من سابقاتها؟ تكنولوجياً وعلميّاً: نعم، بالتأكيد. عدا ذلك، في ما يتعلق بسعادة البشر، لا أعتقد.
(روائي يمني)
غوغل إمبراطورية خلقها طالِبان، من وحي معادلة رياضية اخترعاها عندما كانا في جامعة ستانفورد، في 1995، وكانا في أوائل العشرينيات من عمريهما ؛ يتكئ غوغل على فهرسٍ شاسع، موزَّعٍ على أكثر من مليون كمبيوتر في أنحاء مختلفة من المعمورة. الفهرسُ عبارةٌ عن قائمةٍ بكلِّ كلمات كلِّ اللغات. بجانب كل كلمةٍ قائمةٌ بكل روابط صفحات الإنترنت التي تحتوي على هذه الكلمة. قبل غوغل، عندما كان السائلُ يبحث في محركات الأبحاث الأنترنيتية عن "البيت الأبيض" مثلاً، كان موقع البيت الأبيض يصل إليه بعد خمسين جوابًا، بينما غالبًا لا ينظر المرء إلا إلى العشر أو العشرين الإجابة الأولى.
فكرة غوغل الرئيسة: ترتيب روابط الفهرس، لكلِّ كلمة، حسب درجة "شعبية" صفحة الرابط، بدءًا بالصفحة الأكثر شعبية.
اخترَع مؤسسا غوغل مفهوماً ألمعيّاً عميقاً للشعبية، يمنع الغشّ: شعبية أية صفحة تتناسب طرديًا مع عدد الصفحات الشعبية التي تحتوي على رابطها.
حيُّ غوغل في وادي السيلكون بكاليفورنيا ثكنةٌ ممنوعة الدخول إلا لموظفيه، وللواجهات الدوليّة الكبرى: (عربيّاً، زارته رانيا ملكة الأردن). وتشبه مشاريع الأبحاث التي تنمو بسريّة في مختبراته المحصّنة مشاريع الخيال العلمي.
ما يميِّز حضارتنا الجديدة أيضاً: لِسلطةِ المال فيها دورٌ أفتكُ من أدواره في حضاراتنا السابقة. إذ مرتعُها الجديد: كلّ الكرة الأرضية، بفضل إحدى أخطر كلمات قاموس الحضارة الجديدة: العولمة.
اقرأ أيضاً: أبو يعرب المرزوقي.. استئناف مغامرة التفكير
ففي الفضاء الاقتصادي لحضارتنا المعولمة: آلاف مليارات الدولارات الافتراضية تطير كلّ لحظة، من طرف الأرض لطرفها الآخر بلمحة بصر، لا تعرف حدوداً أو حواجز. جشع الأسواق الماليّة فيه، هاويةٌ بلا قاع، تخنقُ إنسانَ اليوم وتُدمِّره: تجيدُ، في ضوء "علم الفقاعات المالية وانفجاراتها"، اختلاق الأزمات والسلع المالية المسمّمة التي تطيح بحياة مليارات من بسطاء الأرض، لِتخْرُج هي بعدها بمئات مليارات الدولارات من الأرباح الإضافية.
الموقع السياسي للقوى المالية في حضارتنا الجديدة، التي تديَّنت من طرف الأرض لطرفها بدين الليبرالية الاقتصادية، أكثر نفوذاً من قبل: تقود هذه القوى العالمَ "بوجهٍ لا مرئيّ". ولا يتجرأُ القادة السياسيون اتخاذ قرارٍ ضدّها. لا تخدم الاقتصاد، بل تستخدمه لِمصالحها الأنانية في الكسب الرخيص الفاحش. حتّى المجالُ العلمي صار اليوم أسيرَ قوى المال: هي من تُحدِّد سنويّاً أولوية مواضيع الأبحاث العلميّة وكميّة دعمها المالي، لِخدمةِ حاجاتها المباشرة.
الخاسر الكبير في ذلك: البحث العلمي النظري الذي لا يرتبط بتطبيقاتٍ ذات مردود ماليٍّ مباشر. خطيرٌ ذلك، لأن كثيراً من الاكتشافات العلمية التي غيّرت حياة البشرية أتتْ بفضل نتائج نظريّة سبقتها بعقود، لم ترتبط بحوثها، بالضرورة، بتطبيقاتٍ عملية: كان هدفها التطوير النظري للمعرفة الإنسانية لا غير.
تغيّر أيضًا شكل اقتصاد الحضارة الحديثة: بجانب الاقتصاد الإنتاجي، يسود اليوم "الاقتصادُ التلقيحي": اقتصادٌ معرفيّ، تفاعليّ، نموذجه اقتصاد غوغل وفيسبوك، واستعارته: دور النحل التلقيحي للنباتات أهمُّ بكثير من دورها في إنتاج العسل.
ليس غريباً في هذا النموذج الاقتصادي ألا تكون قيمةُ الإنسان مرهونةً بذكائه وشهاداته، لكن بـ "دفتر عناوينه": قائمة الأشخاص المهمّين الذين تربطه علاقةٌ بهم، ويستطيع التأثير عليهم، و"تلقيحهم". صار ذلك الاختيار أكثر أهمية اليوم في تعيينات مستشاري رؤساء الدول وكبار النافذين. ولعلّه يتسلّل أيضاً، لسوء الحظ، ولو ببطء، في المجالات الأخرى، كالتعيينات والترقيات العلمية أحياناً.
اقرأ أيضاً: الصرخة: من حضارة الأزتك إلى سقف العالم
ما يزيد اليوم من جبروت القوى المالية وسطوتها أضعافاً مضاعفة: هرمونات تكنولوجيا المعلومات، والإبداع التجديدي في الأبحاث العلمية: بنوك الدنيا تتحدّثُ اليوم اللغة نفسها، تستخدم صيغ البيانات والبرامج الكمبيوترية نفسها: يكتب موظف البنك في فرانكفورت سطراً من برنامج الكمبيوتر قبل مغادرته المكتب في المساء، ليواصله زميله بعد دقائق فقط، في سيدني التي تستيقظ من النوم. فقد صارت سرعة تبادل المعلومات المالية أسرع من قبل 7 سنوات فقط بمليون مرّة. وسبعون بالمائة ممن يقومون بالمضاربات المالية هم برامج كمبيوتر ذكيّة، ذهبية الثمن، تدرس تاريخ الشركات التي تضارب على أسهمها، وتطوّرات كلِّ مؤشراتها بلمحة بصر. والبقية أو "الحلزونات البطيئة"، فهم جيوش رجال المال المرابضين في البورصات بأعين ملتصقة على شاشاتها، بهواتفهم الجوّالة المحمومة، وأصابعهم التي تلهث على لوحات مفاتيح كمبيوتراتهم. أوّل درس يتعلمه هؤلاء المقاتلون: "الوقت من ذهب" و"السرعة سلطة". من يسبق الآخر بِنَانو ثانية يكسب السوق. ولكسب هذه النانو ثانية لا يقف في وجه قوى المال حائل: تغرس حالياً شركة هيبرنيا ألياف ضوئية تعبر المحيط الأطلسي لربط أميركا بأوروبا، في طريقٍ أقصر من الطريق الحالية، طولها 4600 كيلومتر، تسمح لعملاء الشركة بكسبِ 3 في الألف من الثانية، وسبقِ الجميع أثناء الاختيارات في أسواق البورصة.
علامةٌ جديدة في العلاقة الغرامية بين قوى المال وتكنولوجيا المعلومات: روت بوراك، المديرة المالية لبنك الأعمال الأميركي مورغان ستانلي، و"أعتى امرأة في وول ستريت"، تستقيل من عملها وتسافر إلى كاليفورنيا هذا الشهر، لتصبح المديرة المالية لشركة غوغل. تستلم حال وصولها "علاوة ترحيب": سبعون مليون دولار. مهامٌ كثيرة تنتظرها، بينها تشغيل 60 مليار دولار نائمة، في مشاريع جديدة. الرمز الأهم هنا: يعتبر المحلِّلون انتقالها علامة من علامات هذا العصر الذي تذوب فيه السلطة المالية في أحضان سلطة تكنولوجيا المعلومات. سؤال: هل حضارتنا الإنسانية الجديدة أرقى من سابقاتها؟ تكنولوجياً وعلميّاً: نعم، بالتأكيد. عدا ذلك، في ما يتعلق بسعادة البشر، لا أعتقد.
(روائي يمني)