شامالان يُكمل ثلاثيته: اجتراح الأصالة

25 يناير 2019
إم. نايت شامالان (فيسبوك)
+ الخط -
عام 2000، أخرج إم. نايت شامالان فيلمه الرابع بعنوان "غير قابل للكسر" (Unbreakable). حينها، كان في ذروة مسيرته السينمائية، بعد النجاح الكبير لـ"الحاسة السادسة (The Six Sense)"، الذي أنجزه عام 1999، إلى درجة اعتباره ألفرِد هيتشكوك الجديد. في "غير قابل للكسر"، تناول قصّة مختلفة تمامًا: بطل خارق لا يعرف أنه يملك تلك القوّة، في مقابل شرير ذي ذكاء استثنائي، يرغب في إخراجه من شرنقته وتعريفه على حقيقة ذاته. لكن الفيلم فشل جماهيريًا، في وقتٍ لم تكن فيه القصص المُصوَّرة ومغامرات الأبطال الخارقين قد احتلّت صدارة هوليوود، كما حصل لاحقًا، فتداعت مسيرة شامالان ببطء مع أفلام أقلّ قيمة، تخسر دائمًا في شبّاك التذاكر، حتى وصل إلى قعر الفشل عام 2013. 

حينها، قرّر شامالان خوض مغامرة الإنتاج بنفسه، فعاد إلى اللحظة التي كان فيها "غير قابل للكسر" مشروع ثلاثية لم تكتمل، عن أبطال خارقين في الزمن المعاصر والحياة الحقيقية. في الأول، يولد البطل؛ وفي الثاني، يولد الشرير، وهو ما فعله بذكاء كبير في Split (2015)، المستند إلى شخصية مُضطربة نفسيًا، لديها انفصام يُنتج وحشًا ذي طبيعة حيوانية وقوّة جسدية خارقة.

بعد النجاحين التجاري والنقدي لـ"انقسام (Split)"، حان وقت ختم الثلاثية، التي يتصادم فيها البطل مع الشرير بخطة محكمة من العقل المدبّر، فكان "غلاس (Glass)"، وبدايته منطلقة من التعرّف إلى نمط حياة ديفيد دان (بروس ويليس)، شخصية "غير قابل للكسر"، الذي يعيش حياته كبطل خارق متخفٍ، يقاتل المجرمين في الأحياء المجاورة، أثناء بحثه عن مجرم يختطف الفتيات (Split). وحين يصل إليه، يتصادمان في مشهد قتالي ينتهي بإلقاء القبض عليهما، فيوضعان في مشفى نفسيّ يضمّ قسمًا خاصًا بأفرادٍ يعتقدون أنهم أبطال خارقون. في هذا القسم، هناك أيضًا إيلايجا برايس، أو السيّد غلاس (صامويل إل. جاكسون)، الذي يسعى إلى إحداث تصادم بين دان والوحش (جيمس ماك آفوي)، كي يثبت للعالم نظريته القائلة بوجود أبطال خارقين.

هذا فيلم مربك للغاية، بسبب التفاوت المستمر في مستويات فصول قصّته ومنطقها: يبدأ بشكل مقبول، ويؤسّس عالمه والمطلوب منه سريعًا، ثم يمرّ في مرحلة طويلة من البطء والمَشَاهد المتهالكة، المتضمنة حوارات ذات إشارات كثيرة (إلى درجة التخمة) إلى القصص المصوّرة ومصطلحاتها وعوالمها؛ إلى جانب مشاهد تسمح لجيمس ماك آفوي بإعادة ما أحبّه الناس في "انقسام" عن الشخصيات المتعددة، التي يتغير أداؤها على الشاشة، من دون أن تُضيف تلك الفصول الطويلة شيئًا إلى جوهر الحكاية، أو أن تعرّف على جديد ما عن أبطالها.



غريبٌ حقًا أن لحظة المقابلة الأولى بين الشخصيات الثلاث أمام الطبيبة، كنقطة مركزية للقصّة، تحدث في منتصف الفيلم بسبب هذه الإطالة.

لكن، في النصف الثاني منه، يستعيد الفيلم الجزء الأكثر أصالة فيه: إيجاد قصّة أبطال خارقين، وفلسفة غلاس عن أن وجوده كشخصٍ بهذا الضعف يعني ـ بفضل فكرة التوازن الكوني ـ وجود أشخاص آخرين خارقي القوّة، لا يعرفون حقيقة قواهم، أو لا يسمحون لها بالخروج. وهذا أقرب إلى "إكس مان" (عن خارقي القوة المشتتين) لكن في عالم واقعي. لذا، فإنّ بداية حديث إيلايجا مع الشخصيات المتعدّدة لكيفن/ الوحش، وتنفيذ خطته التصادمية مع ديفيد دان، وصولاً إلى المشهد الطويل جدًا أمام المشفى، هذا كلّه جوهر الأصالة والقوّة التي يملكها إم. نايت شامالان في ثلاثيته، وطريقة تفكيره المختلفة عن أي فيلم قصص مصوّرة آخر، وإنْ يعيبه شيئان: الأول، شعورٌ بأن قوّة أفكاره تزيد كثيرًا عن قدرته على تخيّل المشاهد وكتابتها، فالخطط التي يضعها العقل الخارق مثلاً بسيطة جدًا، وهذا في وقت يُفترض به أن يُبهر بقدراته فنصدّق أن قوته الاستثنائية في عقله، لكن ما يفعله عادي وساذج أحيانًا. الثاني، ضعف الإنتاج، إذْ يكفي القول إن إنتاج "غير قابل للكسر" قبل 19 عامًا بلغت 75 مليون دولار أميركي، بينما تُساوي تكلفة إنتاج "انقسام" 5 ملايين دولار أميركي فقط، قبل أن ترتفع إلى 20 مليون دولار أميركي لإنتاج Glass.

هذا الفقر ظهر مثلاً في شكل مشهد الصدام الأساسي ومكانه، كأن شامالان أراد أن يحدث فعليًا في برج ضخم أمام العالم (كما كانت خطة غلاس)، لكنه اضطر لصناعته أمام المشفى في مكانٍ خالٍ ومتّسع، ما يقلّل من ملحمية الفيلم كأمرٍ كوني يخص حقيقة كبرى عن البشر.
آخر الأشياء المربكة نهايته، والالتواء الدرامي الذي يصنعه بها. إنها فكرة ذكية وأصيلة، لكن ظهورها على السطح فجأة، من دون أية مقدمات في الأفلام الـ3، جعلها غير متينة. كما أن استمرار الفيلم بعد ذلك، ووجود خطة خفية لغلاس، زادا الأمر ارتباكًا، فهو المنتصر النهائي في الحكاية، بشكلٍ من أشكال البطولة والتضحية، رغم أنه ـ في الفيلم الأول ـ إرهابي قتل مئات الأشخاص في حوادث قطارات وطائرات من أجل نظرية إظهار البطل الخارق. فكيف يستقيم ذلك مع بطولته، وشعور الانتصار في نهاية الفيلم الآن؟

رغم هذا كلّه، وحتى مع تفاوت مستوى الأفلام الـ3 وقيمتها، فإنّ المؤكد أنها ثلاثية مختلفة جدًا عن الأفلام الأخرى في هوليوود، و"غلاس" نهاية جدلية ومُربكة لها، يجب مشاهدتها لحكايتها.
دلالات
المساهمون