سِر "النجاح" السريع للوساطة الباكستانية

23 يناير 2016

نواز شريف ووزير الدفاع السعودي في إسلام آباد(10يناير/2016/Getty)

+ الخط -
لم يرد ذكر باكستان بين دولٍ عرضت التوسط بين السعودية وإيران، إثر إحراق السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد، وقطع الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في الثالث من يناير/كانون الثاني الجاري. ومع ذلك، بدت الوساطة التي قام بها رئيس وزراء باكستان، نواز شريف، بين البلدين الأكثر جدّية، إذ اقترنت بتحركٍ فعليٍّ نحو العاصمتين، ولم تتوقف عند إطلاق تصريحات. وحقّق تحرك شريف نجاحاً، فقد سمع في الرياض كلاماً هادئاً عن الرغبة في نزع فتيل المواجهة، وسمع في طهران إدانةً صريحةً من المرجع الأعلى، علي خامئني، لإحراق السفارة والقنصلية السعوديتين، فيما كان وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، يصرّح في دافوس أن المواجهة ليست في مصلحة أحد، على الرغم من أن ظريف خاطب السعودية أن عليها هي أن تفهم ذلك! وكأن الرياض قد هدّدت طهران من قبل. ولم يكتف رئيس الوزراء الباكستاني بسماع التصريحات المطمئنة، إذ دعا الطرفين إلى الاستعداد لإجراء حوار بينهما، وسمع التزاماً من البلدين بتسمية ممثل لكل منهما، قريباً إلى حوار مزمع بينهما، ألحّ عليه شريف.
تمثل المبادرة الباكستانية اختراقاً دبلوماسياً للأزمة الإيرانية السعودية، ويدلل ذلك على وزن إسلام أباد التي بدأت طهران تأخذه في الاعتبار، وإذا كانت لدى الأخيرة مطامح نووية (حتى مع بدء سريان الاتفاق الذي يخفض القدرات النووية)، فإن باكستان (كما الهند) تحوز بالفعل على قنبلة نووية. وقد سبق لمسؤولين عسكريين في إسلام أباد أن هدّدوا إيران، في مارس/آذار الماضي، باستخدم السلاح النووي ضدّها في حال قامت باعتداء على السعودية، على خلفية التهجمات اللفظية الإيرانية ضد السعودية، بعد اندلاع "عاصفة الحزم" ضد انقلابيي اليمن الذين يشكلون ذراع إيران في ذلك البلد. وواقع الحال أن الاصطفاف الخليجي، وغالبية الجانب العربي مع الرياض والتفهم الأميركي، قد وجد ذلك كله ترجيحاً من باكستان، ما أسهم في تراجع حدة الموقف الإيراني.
تربط الرياض بإسلام أباد علاقات متينة وقديمة، تعود إلى حقبة الحرب الباردة، واصطفاف الرياض وكراتشي (العاصمة الباكستانية في الستينيات) في المحور الغربي الأطلسي. وبين
البلدين تعاون عسكري وثيق متعدد الأوجه، أخذ أكبر مدى له في دعم مجاهدي أفغانستان ضد الوجود السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، علماً أن الرياض كانت تقيم، على الرغم من ذلك، علاقات دبلوماسية مع موسكو، وتنشط كذلك في إطار دول عدم الانحياز. بينما تشهد العلاقات الإيرانية الباكستانية فتوراً شبه دائم، ولا يخلو من توتراتٍ واشتباكاتٍ عسكرية محدودة على الحدود (900 كلم)، كما حدث في أواخر العام 2014. ولم يُقيّض لمشروعٍ طموحٍ بإنشاء خط أنابيب للغاز الإيراني، يصل إلى الأراضي الباكستانية، أن يتحقق، على الرغم من قطع أشواط كبيرة فيه.
في واقع الأمر، يعود ترحيب طهران بوساطة نواز شريف وتجاوبها مع هذه الوساطة إلى أنها ترى في هذا التطور فرصة لتحسين العلاقات الإيرانية الباكستانية، لا العلاقات مع الرياض!. وقبل وصول نواز شريف إلى طهران قادماً من الرياض بأسبوع، كانت إسلام أباد تستقبل بحرارة وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان. وجاء خبر الوساطة الباكستانية مفاجئاً، لكن الترحيب الإيراني بها يحمل قدرا أكبر من المفاجأة، فقد كانت طهران بحاجة للنزول من الشجرة، وإلى فك عزلتها، وإلى إقامة أي شكل من الحوار مع "العالم الإسلامي" الذي تشكل السعودية وتركيا وباكستان ومصر والمغرب أبرز أركانه وأوزنها، وحيث لا تحتفظ طهران بأية علاقة طيبة مع هذه الدول، وبعدما تكشّف، في بغداد واليمن وسورية ولبنان، الطابع المذهبي الصارخ لإيران ولأذرعها في هذه البلدان، ما عمّق من حالة النفور والتوجس حيال طهران. ومن شأن إدامة التوتر مع الرياض أن تفاقم عزلة طهران، خصوصاً أن الاتفاق مع الغرب لا يكفل تطبيعاً مع العالم الخارجي، فمبدأ العقوبات ما زال يحكم علاقات الغرب بطهران، فقد جرى، قبل أيام، توقيع عقوبات أميركية على أشخاصٍ وكياناتٍ، على خلفية دعم برنامج صاروخي إيراني متطور.
ومن المرجح، الآن، أن تسعى طهران إلى تحسين علاقاتها مع باكستان المجاورة في غضون العام الجاري، بأسرع من سعيها إلى رفع وتيرة التطبيع مع الرياض، غير أن لباكستان طلباتها بهذا الخصوص، ومنها وقف التغلغل الإيراني لدى الطائفة الشيعية في باكستان (نحو 20% من السكان) والامتناع عن تجنيد باكستانيين شيعة، مقيمين في إيران، أو في باكستان، للحرب في سورية، على أن تبذل إسلام أباد جهداً أكبر في احتواء منظمات سنية متشددة، وعدم تدخل طهران سلباً في الرعاية الباكستانية للمفاوضات الأفغانية بين حكومة كابول وحركة طالبان، وعدم استخدام طهران ورقة بلوشستان الباكستانية بتجنيد سياسي لبلوشستان مقيمين في إيران.
غير أنه كان من شأن الدخول الباكستاني على خط احتواء الأزمة، وبسرعة قياسية، تبريد حمّى استعراض القوة الإيراني، والنأي عن سياسة التهديدات التي طاب لقادة في الحرس الثوري إطلاقها في الأسابيع الأخيرة.
وما يفهم من وساطة نواز شريف الناجحة أن الحرب بين البلدين ممنوعة، وكذلك التهديد بالحرب محظور، وأن الوقوف الباكستاني إلى جانب الرياض ثابت، حتى لو لم تشارك باكستان مباشرة في حملة "عاصفة الحزم". وقد أعطت هذه التوجهات ثمارها، بعد ما تم التهيئة من وراء الكواليس للوساطة التي قامت بها الدولة الصديقة تاريخياً للرياض، وذات الكلمة المسموعة في طهران، كما دلّت النتائج السريعة للوساطة التي وفرت أفضل غطاء للتراجع الإيراني، لكن نتائجها الأولية جيدة ومفيدة للجميع، فمن مصلحة طهران أن تخرج من عزلتها، ومن الحكمة أن تراجع بجرأة سياستها التدخلية في العالم العربي التي تثير عليها نقمة عميقة متزايدة.