سينما وفوتبول عندما تصبح الكاميرا السينمائية أداة كشف

21 يونيو 2016
المخرج أوليفر ستون (Getty)
+ الخط -
تحظى رياضة كرة القدم بمكانة أساسية وفاعلة في المشهد الدولي. توصف بأنها أكثر الألعاب الرياضية شعبية. جماهيرها تمتدّ من الدول الغنيّة إلى الأحياء الأفقر في العالم، وبعض هذه الأخيرة منبعٌ لا يجفّ لرياضيين يتحوّلون، أحياناً، إلى نجومٍ فيها، فيُصبحون أثرياء بفضلها.
للسينما ميزةٌ تُشبهها. توصف، هي أيضاً، بأنها أكثر الفنون شعبية، علماً أن انتشارها الجغرافيّ يمتدّ في أصقاع الدنيا، وإنْ يختفي حضورها، أو يكاد، في المدن الفقيرة جداً. هذه الأخيرة تولِّد نجوماً في السينما أيضاً، يُصبحون أثرياء بفضلها، وذوي تأثيرٍ فاعلٍ في النفوس والمجتمعات.
رياضة كرة القدم، المتفوّقة على معظم الرياضات الأخرى باستقطابها مُشاهدين كثيرين، تماماً كالسينما في الفنون، تعثر في الفن السابع على حيّز كبير لها، روائياً ووثائقياً. فالسينما، المفتوحة على المواضيع كلّها من دون استثناء، تتوغّل في عوالم كرة القدم وتفاصيلها المختلفة، وفي كواليس صنّاعها وارتباطاتهم السياسية والاقتصادية والتجارية، وفي دهاليزها المافياوية. كما تتّخذ من قصص حقيقية مواداً درامية لنتاجات متنوّعة، أو تبتكر قصصاً، لا شكّ في أن معظمها "قابلٌ" لأن يكون حقيقياً.

استعادة

الحديث عن العلاقة القائمة بين هذه الرياضة والسينما منطلقٌ من استضافة فرنسا للدورة الـ 15 (10 يونيو/ حزيران ـ 10 يوليو/ تموز 2016) لبطولة أوروبا في كرة القدم، رغم غيابها عن الملفّ المنشور في المجلة الأسبوعية الفرنسية "لو كورييه أنترناسيونال"، المنشغل بهذا "الحدث الرياضي"، باحتوائه على مقالات مترجمة إلى الفرنسية من صحف ومجلات غربية مختلفة، يُحلِّل بعضها الحدث ارتباطاً بما يجري حالياً في القارة القديمة من مآزق اقتصادية واجتماعية وثقافية وسلوكية، ويُركِّز بعضها الآخر على المسار التاريخي للمجتمع الفرنسي، من خلال البحث في "الهويات" الأصلية للاعبين كثيرين.

الملاحظة الأولى كامنةٌ في أن "كأس أوروبا تُعاقِب محبّي السينما"، بحسب عنوان تحقيق صحافيّ لإيفا توريسيني، منشور في الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند" (15 يونيو/ حزيران 2016). ذلك أن الفترة الرياضية الأوروبية ـ الدولية هذه تُسبِّب تراجعاً ملحوظاً في نسبة مشاهدي الأفلام في الصالات، إما لاهتمامٍ جماهيري بالملاعب، وإما لانفضاض موزّعين عديدين عن إطلاق العروض التجارية لأفلام جديدة لهم، في الموسم هذا، بسبب غياب المشاهدين عن الصالات المعتمة. لكن، في المقابل، لم تتردّد شركة "غومون" الفرنسية في إعادة عرض "ضربة رأس" (1979) لجان ـ جاك آنو (1943)، بنسخة مرمَّمة، بدءاً من 15 يونيو/ حزيران الجاري، الذي لن يكون "نشيداً رياضياً"، بل "تهكّماً ساخراً وحاداً على فرنسا ريفية، هي اليوم مختفية".

أحداث الفيلم تدور في مدينة "ترانكامب"، المعروفة بأن كلّ من وما فيها مرتبط بكرة القدم، وذلك عبر حكاية فرانسوا بيرّان (باتريك دووير)، لاعب الجناح الأيمن في الفريق المحلي لكرة القدم، المشهور بمزاجه السيئ جداً، هو الذي يعمل في مصنع يملكه رئيس الفريق. يُطرَد من الفريق والمصنع، بسبب سلسلة أخطاءٍ يرتكبها، ويُتّهم، زوراً، باغتصاب لا علاقة له به. غير أن الفريق مطالب بالمشاركة في بطولة فرنسا، التي لن تحصل من دونه.

التهكّم على بلدٍ "منقرضٍ"، أو بالأحرى على "صورة منقرضة للبلد"، يجعل حدّة النصّ أشبه ببحثٍ سينمائي، يمزج التشويق بالكوميديا، عن مكامن الخلل في مسار هذا البلد وناسه. يُحقِّق الفيلم نجاحاً نقدياً، مستقطباً أكثر من 900 ألف مُشاهد بقليل. تهكّمٌ يضع باتريك دووير في مقدّمة الصورة الانتقادية، المغلّفة بمسارات مضحكة، تجعل الفيلم برمّته نموذجاً سينمائياً جميلاً عن عالمٍ يختلط فيه الكذب والخديعة بالمصالح والحسابات. وهذا يؤدّي إلى استعادة أحد أجمل أفلام الأميركي أوليفر ستون (1946)، الذي يغوص في أوحال لعبة يُفترض بها أن تكون "رياضية"، فإذا بها صورة واقعية لقسوة الاجتماع الأميركي ووحشيته، مع التنبّه إلى الفرق الشاسع بينهما، سينمائياً على الأقلّ. فـ "أي يوم أحد" (1999) يُصبح، بالأسلوب السينمائي البديع لستون، شكلاً انتقادياً قاسياً للعبة كرة القدم الأميركية، برسمه صورة قاتمة للعبة رياضية موسومة بالعنف. التشابه بين الفيلمين كامنٌ في التغلغل داخل أروقة اللعبة والعاملين فيها، والمجتمع وناسه ومصالحهم وشغفهم وهوسهم بالعنف أيضاً. ولئن يبدو "أي يوم أحد" أقسى، في ممارسة لعبته البصرية الهادفة إلى التفكيك والفضح والكشف، فإن "ضربة رأس" يوجّه أكثر من صفعة لفرنسا، كأن إعادة عرضه التجاري حالياً تذكيرٌ بشيء مفقود في بلد يترنّح على إيقاع القلق الدائم، بسبب تمزّقات كثيرة مُصابٌ بها.

حروب

إلى ذلك، فإن قولاً للإنكليزي جورج أورويل (1903 ـ1950)، مفاده أن "الرياضة هذه تكاد تشبه حرباً، لكن من دون إطلاق نار"، يجد ترجمةً عملية له في فيلم أوليفر ستون، الذي لن "يصمت" عن وحشية لعبة رياضية، تغذّي عنف الفرد الأميركي وتوقه، اللاواعي ربما، إلى الأذية، أو إلى التنفيس عن غضب وتوتر داخليين. العنف، كسلوك فردي أو كثقافة جماعية، حاضرٌ في أفلام أخرى أيضاً، يُمكن عدها منتمية إلى عالم سينمائي ينظر إلى الرياضة كمتاهة لن تتردد، أحياناً، عن تدمير شخص، أو تحقيق انتصار على حساب أشخاصٍ عديدين. العنف هذا مبطّن في "يونايتد الملعون" (2009) للبريطاني توم هوبر (1972)، إذْ يذهب بعيداً في كشف المناطق المظلمة في سيرة براين كلوف (مايكل شين)، المدرب الإنكليزي لفريق "ليدز يونايتد"، خلال 44 يوماً من تدريباته المفتوحة على سجالات وارتباكات وصدامات حادة، في أروقة الفريق وبين أعضائه وفي مناخه العام، قبل أن "يحتل" الفريق نفسه أوروبا كروياً، لعامين متتاليين.

عنف وصخب وقسوة، أمور ترافق رياضة كرة القدم داخل الملاعب والأندية والمنتخبات، وخارجها أيضاً. في 11 يونيو/ حزيران الجاري، تقع صدامات عنيفة في مرسيليا، بالتزامن مع مباراة روسيا وإنجلترا في بطولة أوروبا 2016، المنتهية بتعادل بينهما 1 ـ 1. "أبطالها" منضوون في ما يُعرف بالـ "هوليغنز". لهؤلاء فيلمٌ بعنوان "مصنع كرة القدم" (2004) للبريطاني نِكْ لاف (1969)، الذي يلتقط مسالكهم العنفية في دفاعهم عن فرق رياضية، ويضعهم أمام كاميرا تُعيد تشكيلهم سينمائياً. لن يكون تعبير "شغب" كافياً لوصفهم به، إذ يتحرّر تصرّفهم، سريعاً، من بساطة المفردة إلى عنف مباشر، بالكلمة والفعل معاً. والفيلم، إذ يطاردهم في أفعالهم، يُقدِّم أفضل صورة ممكنة عنهم.


العنف حاضرٌ، بشكل أو بآخر، في "هروب إلى النصر" (1981) للأميركي جون هيوستن (1906 ـ 1987)، وإنْ في خلفية المشهد، أو في مواجهة اللحظة. فالحرب العالمية الثانية مستمرة في حصد أرواح، وتحطيم نفوس، وتدمير حواضر. والأَسْر جزء من "لعبة الأمم" في صراعاتها: في معتقل نازي، يمضي أسرى غربيون وقتهم في ممارسة كرة القدم، إلى أن يفرض عليهم قائد المعتقل (لاعب دولي ألماني سابق) تشكيل فريق لخوض مباراة مع جنوده. النزاع بين أسرى وسجّانين يعثر، في اللعبة الرياضية هذه، على متنفّس لارتباكات شتى، وغطاء يتلذذ هيوستن في جعله واجهة صورة، هي (الصورة) امتدادٌ للصدام الخارجي بين الطرفين.

بعيداً عن الغلاف السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي ـ التجاري، الذي يضاف إلى جماليات مختلفة في صناعة الصورة السينمائية، في غالبية الأفلام المذكورة أعلاه، يُقدِّم "هدف" (Goal)، بأجزائه الـ 3، سيرة كفاح فردي يخوضه شاب مكسيكيّ لتحقيق حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم. سيرة فقير يواجه تحديات شتى، تبدأ برفض والده دعمه ومساندته، بل بمنعه إياه من السفر إلى بريطانيا، قبل أن تظهر في تدريبات وعلاقات مع لاعبين محترفين ومشهورين (يؤدّي بعضهم أدوارهم الحقيقية أمام الكاميرا، كديفيد بيكهام وزين الدين زيدان ورونالدينو وروبرتو كارلوس وراوول وآلن شيرر وغيرهم). في 3 أجزاء، يُحقّقها بالتتالي داني كانّون (2005) وجوم كولّيت ـ سيرّا (2007) وأندرو موراهان (لم يُعرض الجزء الأخير في الصالات، بل أُصدر على أشرطة "دي. في. دي." و"بلو راي" مباشرة، عام 2009)، يروي سانتياغو مونيز (كونو بيكر) سيرة الخروج من الفقر والقهر والانكسار إلى جمال الحلم المتحقِّق، ومزيج الرياضة والنجومية والعلاقات، والزهو الدائم بالانتصارات الممكنة.
وثائقيان

لن يبقى الوثائقيّ بعيداً عن الملاعب ونجومها. فالثنائي الإسكتلندي دوغلاس غوردون (1966) والفرنسي فيليب بارّينو (1964)، القادمان إلى السينما الوثائقية من مسارات واهتمامات فنية أخرى، يرافقان الفرنسي زين الدين زيدان (1972) 90 دقيقة، عبر 17 كاميرا ذات تقنيات عالية جداً، أثناء مشاركته وناديه "ريال مدريد" في مباراة مع "فيلاّرريل سي أف"، في 23 أبريل/ نيسان 2005، ويُحقّقان "زيدان، بورتريه للقرن الـ 21" (2006). فالهدف البصري يتعدى المباراة، وملاحقة اللاعب لن تُحاصَر بشخصه فقط، لأنها تخترق حضوره وجسده إلى ما هو أعمق، داخل الملعب الأخضر، وفي مسام روحٍ وشغف وصراعٍ من أجل فوز مطلوب.

وهذا، بانجذابه الإبداعي إلى اكتشاف حساسية الكاميرات في التقاط الظاهر والمبطن معاً، يكاد لا يتناقض مع الوثائقي الذي يُنجزه البوسني أمير كوستوريتزا (1954) بعنوان "مارادونا" (2008)، الذي يعرض للمرة الأولى دولياً خارج المسابقة في مهرجان "كانّ" السينمائي، في العام نفسه لإنتاجه. شخصية اللاعب الأرجنتيني (1960) وسلوكه ونبرته وحكاياته، وانشداده إلى اللعبة ودهاليزها، وعفويته وبساطته ونجوميته، وأموراً أخرى كثيرة، يكثفها كوستوريتزا في 90 دقيقة أيضاً، كمحاولة درامية لتحويل الفيلم إلى مباراة بينه وبين اللاعب، في المدة الزمنية الأصلية، الخاصّة بكل مباراة.

المشترك بين الفيلمين كامنٌ في تمكّن المخرجين الـ 3 من وضع اللاعِبَين في مواجهة نفسيهما أولاً، وفي مقاربة عالم متكامل من لعبة لم تعد رياضية فقط ثانياً، وفي معاينة بصرية لما هو خارج الملعب، وداخل الشخصية ثالثاً. بهذا، يتكامل الوثائقيان معاً في بلورة علاقة سجالية بين الكاميرا والشخصية، تتمكّن من سبر أغوار فرد، ومن سرد حكاية لعبة، عبر حكاية الفرد نفسه.
نماذج سينمائية قليلة، لن تُلغي نتاجات عديدة أخرى، تُشكّل تأكيداً بصرياً على العلاقة الوطيدة بين صناعتين متكاملتين وشعبيتين.
دلالات
المساهمون