سيناريو نظري يتعالى عن الواقع
بعد يوم واحد على تصريحات رئيس الوزراء الأردني، عمر الرزاز، بخصوص فكرة الدولة الإسرائيلية الفلسطينية خياراً قابلاً للتعامل معه إيجاباً، جدّد الملك عبد الله الثاني التزام بلاده بحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة عاصمتها القدس الشرقية. وقد قطعت تصريحات العاهل الأردني الطريق على استغلال تصريحات الرزاز، للتشويش على موقف عمّان الرسمي، والذي تم التعبير عنه مبكّراً، مع إعلان صفقة ترامب نتنياهو في يناير/ كانون الثاني الماضي، برفض مشتملات هذه الصفقة. وكانت رئاسة الوزراء الأردنية قد أعادت نشر تصريحات الرزاز لصحيفة الغارديان البريطانية، وورد فيها، بحسب هذه الصيغة، قول الرزاز للصحيفة "أتحدّى أن يوافق أي مسؤول إسرائيلي على حل الدولة الواحدة الديمقراطية"، وقوله "إن أي حل آخر غير حل الدولتين سيدفع المنطقة والعالم إلى حالة من الفوضى".
ومن الراجح أن رئيس الحكومة الأردنية تحدّث، في المقاطع المتعلقة بمخاطر الضم، بروح الباحث وذهنية الخبير وسجالية المحلل، بأكثر مما تحدّث بصفته الرسمية. على أن المرء يستبعد هنا أن تشكل فكرة "الدولة الواحدة" بذاتها تحدّياً جدّياً لليمين الإسرائيلي، بمختلف تلاوينه، والمتمتع بقاعدة اجتماعية واسعة، ما فتئت تتنامى وتتسع منذ مطلع الألفية الثالثة على الأقل. فهذا اليمين يؤمن حقاً بدولة واحدة، هي الدولة الصهيونية القائمة على أرض إسرائيل من البحر إلى النهر (على كامل أرض فلسطين التاريخية). ومشروع هذا اليمين، كما يعبّر عنه تكتل الليكود، بسط سيادة الاحتلال على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، مسوغاً ذلك باعتبارات دينية وأمنية همايونية، وبـ"حق تقرير المصير للشعب اليهودي"، مع إبقاء الشعب الرازح تحت الاحتلال في مناطق محاصرة من جميع الجهات، وإنكار مجمل حقوقه، وحتى وجوده الوطني، بما في ذلك الحق في تقرير المصير. وعليه، هذه الدولة الواحدة قائمة، وما على الجميع سوى الاعتراف بها والتعامل معها.
المحتوى العنصري التكويني للمشروع الصهيوني يحول دون الانفتاح على أفكار المساواة والنزاهة والسلام
ولا يثير المشروع النظري، دولة واحدة وديمقراطية، اهتماماً لدى قوى الوسط واليسار، فهذه القوى تحذّر من إقامة دولة أبارتهايد، في حال تمّ ضم الضفة الغربية، لكن هذه القوى لا تجد في الدولة الواحدة العتيدة مخرجاً أو بديلاً صالحاً، وذلك وفاء منها للفكرة الصهيونية، وترغب، بدلاً من ذلك، في الانفصال عن الفلسطينيين (الانسحاب)، وتمكينهم عبر المفاوضات من إقامة دولة منقوصة السيادة. وبما أن أي مشروع مشترك يحتاج إلى تفاعل بين طرفيه يقوم على توافق مبدئي، فإن واقع الحال يفيد بأن هذا التوافق غير قائم، حيث لا يرى أحد في المجتمع الصهيوني هناك حاجةً فعليةً للتوجه نحو هذا الخيار، اللهم ربما باستثناء أصوات أكاديمية وإعلامية متناثرة ذات حس نقدي شجاع، بيد أنها لا تمثل أجساماً حزبية أو اجتماعية أو حتى تياراً ثقافياً يُعتدّ به. وعليه، قد يكون، من باب العبث السياسي وفي أجود الأحوال، من قبيل السيناريوهات المستقبلية النظرية التي تنتظر حاملاً موضوعياً لها، غير أنه من الشطط تصوّرها باحتسابها تمثل مشروعاً راهناً، ما دامت لا تجد صدىً لدى الجانب الآخر، المحتكم إلى معطيات الواقع، والحاجات الفعلية الأمنية والسياسية في هذه المرحلة، كما يراها ويخطط لها. ومعلوم أن الفكرة قديمة، وقد ردّدتها أطراف يسارية فلسطينية، ثم تبنتها حركة فتح ومنظمة التحرير في أواسط سبعينيات القرن الماضي، من غير أن تحقق اختراقاً يذكر في الجسم الصهيوني.
لا يرى أحد في المجتمع الصهيوني حاجةً فعليةً للتوجه نحو خيار الدولة الواحدة، اللهم ربما باستثناء أصوات أكاديمية وإعلامية متناثرة
ولنا في تعامل الدولة الإسرائيلية مع المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل عبرة، فالسلطات تقيم هناك فصلاً بين المجتمعين، اليهودي والعربي، ابتداء من المدارس، ومن تغييب أية مناهج حول حقوق أبناء الفلسطينيين في أرضهم، وكونهم جزءاً من شعبٍ تشرّد عن وطنه. وتعمل الدولة العبرية على تهميش هؤلاء على مختلف الصعد، وتمنع عودة النازحين إلى قراهم وبلداتهم التي هجّروا منها، على الرغم من صدور أحكام قضائية، كما تحول دون تطوير بلداتهم ومدنهم وإقامة صناعات ومشاريع اقتصادية حيوية لهؤلاء، كي يبقوا في وضعية التابع غير المنتج، وتضرب صفحاً عن حماية المجتمع من شبكات الإجرام، فإذا كانت إسرائيل تتعامل مع من يحملون جنسيتها على هذا النحو، فهل يُعقل أن تنفتح على إقامة دولة واحدة ديمقراطية ومشتركة، يجد فيها الطرفان ما يلبّي حقوقهم ويشبع هويتهم؟ المحتوى العنصري التكويني للمشروع الصهيوني يحول دون الانفتاح على أفكار المساواة والنزاهة والسلام، أو على الثقة بكفاءة الطرف الآخر وذكائه، بما يجعل من المشروع الصهيوني ونظامه السياسي مشروعاً كولونيالياً إحلالياً، يستعيد أسوأ نماذج هذا الاستعمار، ويضيف إليها مزيداً من الشناعات. وقد أدّى نجاح المشروع الصهيوني في إقامة دولة متطورة، وفي تحدّي المجتمع الدولي، والسعي الدائم إلى تطويعه، وبناء جسور مصالح معه، وصولاً إلى تآكل الرفض العربي الرسمي للدولة العبرية، واحتلالها الأراضي العربية. أدى ذلك إلى ازدهار الاتجاهات الجذرية وسيادتها على المجتمع، مع سيادة أفكار مثل أن المشاريع السلمية القائمة على القرارات الدولية تشكل خطراً وجودياً على هذه الدولة، وأن الطريق نحو المستقبل يشقّه فقط تعاظم القوة العسكرية، بما فيها التصنيع، وتعظيم سلاح الردع .
إذا كانت إسرائيل تتعامل مع من يحملون جنسيتها بعنصرية، فهل يُعقل أن تنفتح على إقامة دولة واحدة ديمقراطية ومشتركة
في ضوء ذلك، يبدو طرح فكرة الدولة الواحدة أقرب إلى الطوباوية السياسية لطرف واحد، هو العربي والفلسطيني، بينما يراها الوعي الصهيوني السائد تضحيةً بالحلم الصهيوني بالسيطرة على كامل أرض فلسطين، ونفي وجود شعبها. أما في ميزان المعادلات السياسية وحركة الواقع، فإن تداول هذه الفكرة يُبهت من مشروع حل الدولتين، ويجعله مجرّد خيار بين خياراتٍ أخرى. لقد تم التعاطي الإسرائيلي مع مشروع الدولة الفلسطينية بطريقة العمل على تجويف هذا المشروع، وسلب أرض هذه الدولة، كي تصبح معلقة في الهواء. وفي حالات أخرى، جرى تصوير الغزو الاستيطاني على أنه لا يخلّ بمشروع إقامة هذه الدولة، كما كان يتحدّث زعماء حزب العمل قبل تقهقر هذا الحزب. وصولاً إلى ادعاء الإدارة الأميركية الحالية أن "صفقة القرن" تتيح إقامة دولة فلسطينية، ولكن في أحضان الاحتلال، وتحت رقابته ووصايته ورحمته.
كذلك الأمر، فإنه يسهل التعاطي مع فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة والتلاعب بها، غطاءً لإدامة الاحتلال، ولتمدّد الدولة الإسرائيلية، وبث أشكال من التدليس بأن تطوير المناطق الفلسطينية وتحسين مستوى الحياة فيها على أمد طويل (بديلاً عن الاستقلال) يفتح الطريق إلى دولةٍ واحدةٍ مزعومة، تكون فيها الغلبة بالطبع لمن غلب.
ولا يعني ما تقدّم المصادرة على المستقبل الذي يظل مفتوحاً ويزخر بالممكنات، غير أن فكرة الدولة الواحدة، بصفتها سيناريو نظرياً، لن تجد لها ترجمة على أرض الواقع، بغير تحولاتٍ عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، وشرط قيامها أن تنشأ دولة فلسطينية مستقلة أولاً، تضمن الحقوق الجوهرية الأساسية. علماً أن كاتب هذه الكلمات يؤمن بأن إقامة شكل اتحادي أو وحدوي مع الأردن خيار استراتيجي لا غنى عنه، تُمليه حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ والحاجات المستقبلية، وهو ما يستحق التطلع إليه، والسعي من أجله، قبل أي توجّه آخر.