في حين تربط وسائل التواصل المختلفة بين الناس حول العالم، إلا أن أهالي مدن شرق شمال سيناء ما زالوا خارج هذه المعادلة. أجواء الحرب التي يعيشونها، أرغمتهم على الحياة "خارج نطاق التغطية". هناك، فرضت قوات الجيش حصاراً إعلامياً على مدينتَي رفح والشيخ زويد في أقصى شرق مصر، بالتالي فإن محاولة نقل الأحداث تعدّ جريمة في نظر السلطات الأمنية الموجودة في تلك المناطق.
في قرية شيبانة جنوب مدينة رفح، خسرت عائلة موسى سليمان الجهيني الوالد وطفلته. قوات الجيش في القرية أطلقت النار عشوائياً في اتجاه العشش الواقعة في إحدى مناطق القرية، فيما كانت الطفلة حنين ابنة السنوات الخمس تساعد والدتها في ترتيب عشتهم البسيطة. لم تردّ تلك العشّة الرصاص عن الصغيرة، فأصيبت أمام عينَي والدتها. والأخيرة، ما إن رأت الدماء تنفجر من جسد طفلتها، حتى حملتها وركضت مسرعة في اتجاه مدرّعات قوات الجيش تتوسل نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج أو إلى أقرب مكان يمكنها فيه العثور على وسيلة نقل. لكن المدرّعات أكملت طريقها من دون أن تلتفت إلى صرخات الأم. وجلست الوالدة أمام طفلتها تشاهدها وهي تنزف، قبل أن تتمكن بعد ساعات من إيجاد وسيلة بدائية لنقل ابنتها. لكن الوقت كان قد تأخر.
صدمة الوالدة ومحاولاتها لإسعاف طفلتها جعلتها تغفل عن غياب الوالد موسى سليمان الجهيني، لتكتشف لاحقاً أنه كان يقوم ببعض الأعمال في محيط منزلهم وحصل هو أيضاً على نصيبه من طلقات الجيش التي أودت بحياته. هكذا انتهى يومها وقد فقدت الابنة والزوج. ظنّت أن مأساتها انتهت عند هذا الحد، لكن في اليوم التالي، سجّلت حملة جديدة. وفي أثناء تجمّع الجيران والأقارب لمواساتها، أدّى إطلاق النار إلى إحراق عشش، لا سيّما تلك التي كانت تسكنها العائلة. ففقدت المرأة مسكنها بعد ابنتها وزوجها. ومرّت الجريمة بصمت، إذ ساحة الجريمة خارج نطاق التغطية.
في قرية الجورة جنوب مدينة الشيخ زويد، وتحديداً في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كانت عائشة عيد سليمان ومعها ابنتها ميادة علي مريشد تتنقلان في قريتهما لقضاء بعض الحاجات، وإذ بلغم ينفجر فيهما. تجمّع أهالي القرية وحاولوا إنقاذهما، من دون جدوى. ولم يتمكنوا من الاتصال بالإسعاف، إذ قريتهم أصبحت خارج نطاق خدمة شبكات الاتصال المصرية.
قطع شبكات الاتصال وندرة المواصلات في قرى جنوب رفح والشيخ زويد حرمت عدداً كبيراً من العائلات التي ما زال أبناؤها يسكنون فيها، من الاطمئنان عليهم ومعرفة أخبارهم. وهو ما يعانيه أبو محمد من عائلة الحمادين، الذي نزح من قرية التومة جنوب الشيخ زويد وسكن في العريش مع ابنته الأرملة التي كانت قوات الجيش قد صفّت زوجها. وقد بقيت ابنته الثانية وعائلتها في قرية الزوارعة جنوب الشيخ زويد، ليذوب قلبه قلقاً عليها مع كل خبر قصف عشوائي يصله من هذه المنطقة. هو لا يدري إن طال القصف ابنته وأطفالها أم لا.
يقول أبو محمد: "تجاوزت الخمسين من عمري وأنا مصاب بالتهابات مزمنة في مفصلَي الركبتين وبانزلاق غضروفي، ولم أعد قادراً على التنقل. ابنتي أرملة شابة وأطفالها صغار، لا تستطيع الذهاب بمفردها. تمر عليّ الأسابيع من دون أن أعرف شيئاً عن ابنتي هناك ولا عن زوجها أو أطفالها. في منطقتهم، لا تتوفر فيها خدمات اتصال". يضيف: "أسمع صوت القصف على مناطقهم، وأظل أناجي ربي في عجز، أن يحميهم وأبحث في قنوات التلفزة عن أي خبر يطمئنني أن القصف بعيد عن ابنتي وأحفادي".
من جهتهم، رأى حقوقيون في ذلك انقطاع إجراءات تعسفية، هي وسائل للتهجير القسري تستهدف مدنيين وتخالف القوانين والأعراف الدولية حتى في الحروب.
بأمر عسكريّ
منذ أكثر من عامين، تعيش هذه المناطق في سيناء من دون وسائل اتصال. حتى خدمات الهاتف النقال متوقّفة بأمر عسكريّ. هنا، حالة حرب حقيقية. الاشتباكات مستمرة مع المسلحين، والقصف الجوي عشوائي، وإطلاق النار يؤدي إلى سقوط ضحايا. وهؤلاء يشاهدهم ذووهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة أمامهم، فيما يعجزون عن طلب النجدة، بسبب انقطاع شبكات الاتصال وندرة وسائل النقل في هذه القرى.
اقرأ أيضاً: الدروس الخصوصيّة.. أسعار خيالية قبل امتحانات مصر النصفيّة