"في مكان ما من ألمانيا، يتجوّل سيموني ريديلّي Simone Redaelli، الكاتب والعالِم المتخصّص في أعراض النزيف الدموي، تائهاً قلِقَ الروح متأمّلاً؛ فمنذ أن اكتسب في طفولته شيئاً من معرفة بعلم الأحياء والشِّعر، بدأ يمزج بين متعة ملاحظة العالَم من حوله وبين نظرة الأدب إلى الأعماق، ويعاني من مرض نادر غير سار؛ مرض يفتّت عظامه ويُلهب لحمه دائماً، هو الرغبة في الحقيقة".
بهذه الكلمات، تُقدّم مجلة "كلتشريكو" الإلكترونية (Culturico.com) هذا الكاتب تمهيداً لمقالات له، ولكتّاب آخرين يبحثون كما يبحث ويرغبون في ما يرغب فيه، يمكن القول إنها تلفت النظر إلى عددٍ من أحجار الزاوية التي أهملها البنّاؤون. مقالات تحمل عناوين مثل "الشعر: مركبة تقطع الطريق على واقع متعدّد الأشكال يقف وراء لغة عقلانية"، و"ظهور هوية الطفل"، و"لماذا تحمل كل الأخبار جرعةً من التزييف؟".
أمّا مقالته البارزة "لماذا تتبلّد أحاسيسنا أمام المآسي؟"، والتي سنُترجم بعض ما جاء فيها، فتكاد تلمّ خيوط هذه الجدّة في التناول ولفت النظر. نُشرت هذه المقالة منذ وقت قريب، ليس لأن هناك شيئاً محدّداً أثار موضوعها كما نعتقد، بل لأنها تعكس مسألة نفسية/ اجتماعية/ أدبية/ سياسية لها امتدادات في الحاضر، ولها تاريخ أيضاً. لهذا السبب نجده ينعطف في سياقها ويُحيل القارئ إلى مقالة في صحيفة، أو مقالة في المدوّنة ذاتها، له أو لأحد الكتّاب المشاركين، أو يبعث من الماضي أفكار فيلسوف من ذلك النمط الذي أهمله البنّاؤون من بين ما أهملوا.
يكتب هذا الجوّال التائه الباحث عن الحقيقة: "تجاه تقارير عن المآسي الإنسانية في مختلف بقاع الأرض، من النادر أن نشعر بشيء. الفيلسوف الألماني غونثر أندرس يُرجع هذا العجز عن الإحساس بحالة ألم حقيقية إلى وجود هوّة لا يمكن تخطّيها بين جسامة أفعالنا ومحدودية وعينا بها".
واستناداً إلى هذا الفيلسوف (1902 - 1992)، يمضي إلى القول معه، إنّ علينا تدريب أنفسنا عاطفياً على تحمُّل المسؤولية عن تبعات أفعالنا، وإلّا انتهينا إلى فقدان السيطرة فقداناً تامّاً على آثار قرارتنا المحتملة. ويكرّر الكاتب قادماً إلى الحاضر: "نحن لا نكاد نشعر بشيء تجاه الهجمات الإرهابية والتقارير اليومية عن الاغتيالات وتكاثُر أعداد البشر المنبوذين المدفوعين إلى الانزواء... إننا نعيش في عصر تتبلّد فيه أحاسيسنا تجاه المآسي الإنسانية".
ويرسم لنا صورته الشخصية في هكذا عصر بالكلمات الآتية: "إنّني أرتعب أحياناً أثناء سماعي أنباء درامية، أو قراءتي لتقارير فظّة مثل هذه. أرتعب لإدراكي أنني عاجز عن الإحساس بتجربة ألم يناسب ما أسمع. وحتى حين ينتابني قدرٌ معيَّن من الخوف، رغم ضآلته، لا يستمر خوفٌ مثل هذا زمناً طويلاً. ويمكنني حالما أُغلق تلفازي العودة بسهولة مرّةً أخرى إلى أفعالي المعتادة؛ أرتشف قهوتي، وأفكّر بمطامحي السخيفة".
وبعودته إلى أندرس، مع إحالتنا إلى مقالته التي يناقش فيها أفكاره عن ظهور هوية الطفل، يقول لنا ريديلّي إنه يُفسّر تبلّد الإحساس بالألم بظهور القنبلة الذرية؛ فهذا الفيلسوف يرى أن اختراع هذا السلاح قاد إلى ظهور مسافة لا يمكن عبورها بين المنتجات التقانية الفعّالة وبين القدرة الإنسانية المحدودة على فهم سطوة مثل هذه.
ولأن هذه القنبلة ليست "وسيلة" شأنها شأن أي سلاح آخر تختفي حين الوصول إلى الغاية منها، وإنّما تعلو على أي غرض يمكن أن نفكّر فيه، واستخدامها يأتي بنتائج لا يمكن التنبّؤ بها في الزمان والمكان، علينا أن نقبل أن قوّتها الكامنة الحقيقية تفوق مخيّلتنا بمراحل. أو باختصار "لقد أنشأنا شيئاً تتجاوز طاقته الملموسة أي توقُّع مجرّد يمكن تخيُّله".
وهنا يطرح السؤال: "لئن كانت مخيّلتنا لا تستطيع مواكبة أفعالنا، فماذا عن مشاعرنا؟". جواباً عن هذا، يعيد صياغة ما طرحه أندرس على الشكل الآتي: "نحن قادرون على قتل آلاف الناس، وربما يمكننا تخيُّل أننا نقتل بعضهم، إلّا أننا يمكن أن نأسف لموت واحد على الأغلب... إذاً، من الواضح أن جهاز مشاعرنا لا يتّسق مع أفعالنا دائماً؛ المشاعر لا يمكنها مجاراة الأفعال. لهذا لا يمكن ردم الهوة بين وعي أفعالنا وجسامة فعاليتها... معنى هذا أن هناك تفاوتاً بين قدرتنا على "معرفة الأشياء" وقدرتنا على "فهم الأشياء"... ولكن، لماذا نحن غير قادرين فعلاً؟".
للإجابة عن هذا السؤال يأخذنا، مهتدياً بالفيلسوف ذاته، إلى ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، حين لم يفهم القادة النازيّون سؤالاً طُلب منهم فيه تقديم تبرير لجرائمهم، وكان جوابهم المُفزع أنهم قاموا "بالمهمّات التي اقتضتها وظيفتهم". مفهومُ "الوظيفة" الجديد هذا هو ما سيحاول استكشافه، فيجد أن كلمة "وظيفة" أصبحت ترادف كلمة "مهمّة"، أي أنَّ إعدام النازيّين للناس في الشوارع والبيوت وساحات المعارك العدوانية، لم يكن سوى "مهمّات" وظائفهم. ومن أجل إنجازها بكفاءة لم يكن مطلوباً معرفة ماذا حدث من قبل ولا ما سيحدث فيما بعد... ولأن السلطات النازية، وفق هذا الخط، كانت عمياء عن تبعات أفعالها، أصبحت هذه الأفعال "محيَّدة أخلاقياً" تقع ما بعد الخير والشر.
عند هذه النقطة، يحوّل الكاتب النقاش إلى الزمن الراهن ويسأل: هل ينطبق مفهوم "الوظيفة" الجديد هذا كأداء أعمى معزول ومحيَّد أخلاقياً، على أعمالنا اليوم أيضاً؟ ويُجيب آخذاً الشركات على سبيل التمثيل: "نحن نشارك كأُجَراء في الفعاليات التجارية، ونتعاون لصالح شركاتنا، ولكن من دون معرفة الغايات النهائية لأفعالنا. لقد تدرّبنا على القيام بـ "وظائفنا" من دون وجود النتيجة الملموسة لما نقوم به... أي أننا في حالة عمى عن النتائج. وبتبسيط أكثر؛ نحن لا ندرك في غالب الأحيان الأهداف النهائية للشركات التي نعمل فيها، أو بتعبير أفضل، نحن لا نشعر بالحاجة إلى هذا الإدراك. في هكذا وضع نحن نُعفى بكل براءة من مواجهة أيّ أزمة أخلاقية".
وهكذا نصل إلى استنتاج محرج: فكوننا عُميٌ ضمنياً عن معنى أفعالنا، فهذا معناه أنّنا لا نشعر بالحاجة إلى مواجهة جسامة تأثيرها الفعّال أبداً. لهذا نتبلّد تجاه وضع حقيقي من أوضاع الشعور بالألم، لأنَّ الخراب الذي يصيبنا يتجاوز ما نفهمه بمشاعرنا. وزيادة في توضيح هذه الفكرة يحيلنا إلى مقالة عالم الأحياء المختصّ في علم الوراثة، فيدريكو غيرماني، المنشورة في المدوّنة نفسها تحت عنوان "التعاطف المفقود: ماذا نغيّر لكي نغيّر العالم"، لكي نفهم "لماذا كلّما عظم الخراب تضاءل تأثيره على أجواء مشاعرنا".
ويختم ريديلّي بالقول: "طالما أنَّ أفعالنا تؤدّي ما يفوق فهمنا، وطالما أننا مدرَّبون على الإحساس بمدى الكشف الشعوري التالي الذي قد يتبع، لا نستطيع أن نكون معنيّين بما فيه الكفاية، وتظلّ النفس صامتة. ما يبقى هو ضراعة مستميتة: علينا أن نردم الهوّة بين جسامة أفعالنا والمنابع الشعورية المحدودة التي نحن على استعداد لفهمها. وللوصول إلى هذا الهدف، علينا توجيه انتباه جادّ نحو التربية العاطفية، وإقامة استراتيجيات مستجدّة لتعزيز إمكانياتنا المؤثّرة. فإن لم نتصرّف فوراً، ربما نفقد سريعاً الإحساس بالتأثير الشامل لقراراتنا".