سيرج توبيانا (1/ 2): الانفتاح والفضول ضروريان في السينما

30 يناير 2019
سيرج توبيانا: اكتشاف الأشياء عن كثب (فيسبوك)
+ الخط -
يصعب اختزال سيرة رجل مثل سيرج توبيانا، الناقد المساهم في تجارب مهمّة وغنيّة، في أنماط شتى من العمل السينمائي. لكن المشترك كامنٌ في كونه شعلة فضول لا تنطفئ، وفي شغف بالسّينما المتفاني في خدمتها. بفضل تجربته في مجلة "دفاتر السينما" نحو 30 عامًا، نصفها تقريبًا كرئيس لتحريرها، رافق مرحلة حاسمة في الصناعة السينمائية بدءًا من أواخر سبعينيات القرن الـ20، بعد تمكّنه من إخراجها من أزمات عديدة، فطبع تاريخها بمنجزات كبيرة.


بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر توبيانا مؤسّس "النسخة الحديثة" من "السينماتيك" الفرنسية، التي أشرف عليها بين عامي 2003 و2016. قبل انتقاله إلى "أونيفرانس" عام 2017.


مؤخّرًا، شارك في الندوة الرئيسية للدورة الـ21 (15 ـ 22 ديسمبر/ كانون الأول 2018) لـ"مهرجان السينما الأفريقية" في خريبكة، المدينة المغربية التي عاد إليها بعد 41 عامًا، حين زارها مع رفيق دربه الناقد سيرج داني، لحضور إحدى الدورات الأولى للمهرجان. التقته "العربي الجديد" في حوار طويل، تدرّج من بدايات علاقته بالسينما، والمحطّات التي صنعت مساره السينمائيّ كناقد "استثنائي"، وصولاً إلى تجربتي "السينماتيك" و"أونيفرانس"، مرورًا بالنقاش الدائر حول التحدّيات التي تواجه السينما حاليًا، مع تنامي "سطوة" المنصّة الأميركية "نتفليكس" على صناعة الأفلام، ومسألة "تراتبية الوسائط".

هنا الجزء الأول من الحوار.

(*) سأبدأ بسؤال حول "سينفيليتك": ما هي الذكرى الأولى التي تحتفظ بها عن السينما في طفولتك؟
ـ قبل عامين، ألّفت كتابًا بعنوان "شبح الذكريات"، سردت فيه فصولاً من حياتي. فصله الأول يتناول الفيلم الذي شاهدته صغيرًا جدًا، وأصابني بالصّدمة: "لا سترادا" (1954) لفيديركو فيلّيني. ولدت في "سوسة"، ونشأت في تونس. كان عمري نحو 6 أعوام عندما أخذني والداي إلى تونس العاصمة، وأنا لا أعرف لماذا. ذهبتُ معهما إلى السينما لمشاهدته. كان ذلك عام 1955 أو 1956. كنتُ معهما، ولم يعرفا ماذا يفعلان بي. شاهدتُ الفيلم خائفًا. كنتُ مرتاعًا بحقّ. كلّ شيء كان يخيفني: الزوجان والممثل والممثلة والسّيرك والبؤس والفقر في إيطاليا الخمسينيات. الأسود والأبيض والاختلاط داخل المقطورة. كنتُ مذعورًا.

في طفولتي، شاهدتُ أفلامًا كثيرة: "وسترن" وملاحم وغيرها. كانت خمسينيات القرن الـ20 وستينياته أوج الملاحم الإيطالية. أفلام جيري لويس ودين مارتن. الفيلم الكوميدي الكبير أواخر الخمسينيات. أحببتُ أفلام لويس، لكني لم أشاهد أي إنتاج لـ"والت ديزني"، ولا أفلام أطفال، بل فقط أفلام بالغين. والدتي مُدرِّسة ابتدائية، وأبي حِرَفيّ ساعات ومجوهرات. كانا يرتادان النادي السينمائي كلّ يوم ثلاثاء، وكنتُ أرافقهما أحيانًا. كنتُ أذهب كلّ يوم سبت مع شقيقتيّ إلى السينما. لم تكن السينما تكلّف شيئًا يُذكر، لذا كانت وسيلة ترفيهنا الوحيدة. هكذا، اطّلعتُ على أفلام كثيرة.

كانت "سينفيليتي" متوحّشة، من دون مراجع. أحببت الـ"وسترن" ولا أزال. أحببت أفلام لويس ولا أزال. لكن مشاهدة "لا سترادا" أثّرت فيّ إلى درجة أني لم أستطع إعادة مشاهدته من أثر الصدمة. رأيته أخيرًا، منذ 10 أعوام، عندما نظّمتُ برنامج استعادة لفيلّيني في "السينماتيك". عندها، شاهدته كشخص بالغ. إنّه تحفة. فهمتُ أخيرًا، بمشاهدتي إياه كبالغ، كلّ ما كان يخيفني عندما كنت صغيرًا. الفيلم مريع، عن الواقع والبؤس والبؤس الجنسي إلخ. أثار فيّ شيئًا مهمًا للغاية: الفضول.

(*) وما كان أوّل لقاء لك مع السينما كفكر؟
ـ كان ذلك عام 1965. كنت أبلغ 16 عامًا. كنتُ في "غرونوبل"، في المدرسة الثانوية. جئتُ إلى فرنسا عام 1962. التحقتُ بـ"مدرسة شامبوليان الثانوية" عام 1965. رأيتُ "بيارو المجنون" (جان ـ لوك غودار، 1965) لوحدي. هذا فيلم تجلٍّ. كنتُ أشاهد أفلامًا كثيرة، وأتردّد على الصالة السينمائية في كلّ وقت، فشاهدتُ هذا الفيلم فجأة. شعرتُ أن هناك أحدًا ما خلف الشاشة، فنانًا يتحدّث معي.



جمال الفيلم والألوان والقصّة وروعة الممثّلين، الإشارات إلى لوحات رونوار وماتيس، جمال آنّا كارينا، البحر الأبيض المتوسط، اللون الأزرق، مرجعيات الفن. كنتُ متأكّدًا أنّه مختلف، لكنّي لم أكن أعرف كيف أعبّر عن ذلك، لأني كنتُ يافعًا، ولم أكن أملك اللغة. في الوقت نفسه، كنتُ شابًّا شيوعيًا، أقرأ صحيفة لم تعد موجودة اليوم: "آداب فرنسية"، كان يرأسها لوي آراغون، الكاتب والشاعر الكبير، والشيوعي أيضًا. لم أكن أفهم الكثير ممّا يُكتب فيها، لكن هناك مقالة قرأتها، وفهمت القليل الذي عزّاني في بعض خياراتي. المقالة لآراغون نفسه، منشورة على صفحتين من الحجم الكبير، بعنوان عريض: "ما هو الفن؟ جان ـ لوك غودار". أشاد الكاتب العظيم بغودار، قائلاً إنه دولاكروا، ماتيس، وإنّه يجسّد الفن الحديث.

كان لدي شعورٌ بأن آراغون محقّ، وأنه أعطاني الحجج، وهمس في أذني أني كنت مُحقًا في أنّ أحب هذا الفيلم. من الضروري دائمًا، عندما تكون شابًا، أن يكون هناك شخص ما، المعلم أو مدير المدرسة، يشجّعك ويقول لك: "نعم، اذهب في هذا الاتجاه". هذا الشخص هو آراغون. لم أكن أعرفه، لكنّي قرأت له. بعد ذلك، أنشأتُ ناديًا سينمائيًا في المدرسة الثانوية، وبدأت عرض أفلام للطّلاب. في سنّ الـ16، عرضت أفلام آيزنشتاين وجون فورد، وأفلام اجتماعية كـ"عناقيد الغضب" (جون فورد، 1940) و"أكتوبر" (سيرغي آيزنشتاين وغريغوري ألكسندروف، 1928) و"مُدرّعة بوتيمكين" (آيزنشتاين، 1925) وغيرها.

تنشيط النادي السينمائي كان لي نضالاً. لكن، في الوقت نفسه، اكتشفتُ بفضله الأفلام المهمّة: الواقعية الجديدة كـ"روما مدينة مفتوحة" (روبيرتو روسّيليني، 1945). في العام التالي، كان هناك أستاذ للأدب الفرنسي نقدِّره كثيرًا، جعلنا نحبّ ستاندال والكتاب العظماء جميعهم. كان مفتونًا بالأفلام أيضًا. شجّعنا على مشاهدة "الحرب انتهت" لآلان رينيه (1966)، الذي كان يعشقه. لكنّه كان يكره غودار. لذا، كنتُ منزعجًا، فغودار بالنسبة إلي، في الستينيات، خارق لا يُناقش. عندما شاهدتُ "مذكّر مؤنّث" (1966)، شعرت بأن هذا هو عالم اليوم، لكنّه كان يراه جيّدًا باستبصار غير طبيعي.

هكذا تعلّمت حبّ السينما. بفضل والداي أولاً، ثم الكتّاب الذين قرأت لهم ثانيًا، وبفضل أستاذي الذي شجّعني ورافقني. نحن دائمًا ندين لشخص ما ساعدنا على التوجّه في فترة معيّنة من حياتنا.

(*) هل تتذكر أول مقالة كتبتها؟
ـ كان ذلك فظيعًا. جئتُ إلى باريس عام 1971، لدراسة السينما في جامعة الـ"سوربون". كنتُ أبلغ 22 عامًا، وأعرف أن نقّاد "دفاتر السينما" يدرّسون هناك. هذا مهمّ جدًا. تسجّلتُ وأصبحتُ طالبًا وتعلّمت الكثير. حينها، كان الوضع مضطربًا للغاية في باريس، بعد مايو/ أيار 1968. كان الطلاب يحبّون أفلام الـ"وسترن" السياسي والأفلام الإيطالية السياسية والأفلام الملتزمة. تقرّبتُ قليلاً من سيرج داني، الذي كان ناقدًا في "دفاتر السينما" وأستاذًا في كلية السينما. كان الوصول إليه سهلاً، لكونه ودودًا وثرثارًا للغاية. دخلت دائرة كتّاب "الدفاتر"، عشية دخولها مرحلتها المُسيّسة للغاية.

(*) الفترة الماوية الشهيرة.
ـ بالضّبط. كنتُ ماويًا لغاية عام 1971. قمتُ بجولة كاملة في هذا التيّار، وانتهى الأمر. كان علي أن أتعلّم شيئًا ما في حياتي. هكذا نشأت لحظة غامضة قليلاً بيني وبين "دفاتر السينما". قبل هذا، أنشأتُ مجموعة عمل مع الطلاب، وكتبتُ مقالة. أعتقد أنها كانت عن التلفزيون والبرامج السياسية خصوصًا، نشرَتْها "دفاتر السينما". في الثانية، هناك مقارنة بين فيلمي "السّن بالسّن" (1972) لمارين كارميتز (عن إضراب العمال) و"كلّ شيء على ما يرام" (1972) لغودار. أحببتُ هذا الفيلم أكثر من فيلم كارميتز طبعًا. بما أني ماوي، لم أكن أوقّع مقالاتي باسمي، بل باسم مجموعتنا. كان الأمر هزليًا جدًا. كانت مجموعتنا تسمّى "مجموعة لو شون للتدخّل الأيديولوجي"، في إشارة إلى شاعر الثورة الصينية الكبير. كنتُ أواجه صعوبة في الكتابة. افتقرتُ إلى الخبرة والثقافة والمراجع. كان ذلك شاقًا ومؤلمًا.

تعود بداية تجربتي مع "دفاتر السينما" إلى نهاية عام 1972 وأوائل عام 1973. ثم حدثت الأزمة. أصبحت "الدفاتر" تزداد توغّلاً في الأيديولوجيا والدوغمائية، يومًا تلو آخر. لم يكن هناك أي نقد للأفلام تقريبًا. عندها، حدثت ثورة في هيئة التحرير. مع داني، الذي يكبرني بـ6 أعوام وله خبرة أكبر، وأنا أقدّره كثيرًا، حدث تغيير مهم: غادر جان ناربوني وجان ـ لوي كومولي المجلّة. قال داني: "أنا مستعد لقيادة المجلة، وسيساعدني سيرج". كانت فترة تعلمت فيها الكثير، لكن الأمر صعبٌ للغاية، فـ"دفاتر السينما" قطعت الجسور كلّيًا مع السينما. كانت على خصام مع الجميع، عمليًا. صارت تتحدّث عن أفلام (جان ـ لوك) غودار و(جان ـ ماري) ستروب. لم يعد هناك أي فضول. لا شيء غير الأيديولوجيا والسياسة. لم يعد أحد يقرأ المجلة تقريبًا. لذا، مع داني، أعدنا بناء شيء ما. استغرق الأمر جهدًا كبيرًا عامي 1974 و1975.

في الفترة نفسها، تعرّفنا على نور الدين الصايل، الذي أصبح صديقًا لي ولداني وباسكال بونيتزر. كانت لدينا قواسم مشتركة كثيرة بخصوص التكوين السينمائي والحساسيات. بحكم ترؤسه "الجامعة المغربية لنوادي السينما"، كان الصايل يدعونا دائمًا إلى تنشيط دورات تدريبية لفائدة "نوادي السينما" التابعة للجامعة. هكذا، قدمنا إلى خريبكة ومكناس عام 1977، ومدن أخرى. أحبّ هذا البلد. لا أتردّد في العودة إليه كلّما استطعت. في ذلك الوقت، كانت "الجامعة المغربية لنوادي السينما" مكانًا رائعًا وحيويًا وملائمًا لمناقشة الأفلام والأفكار.



(*) أتصوّر أن هذا كان يندرج في إطار مشروعكم للانفتاح على العالم.
ـ بالضبط. بعد الفترة الماوية، أردنا الخروج. ذهبنا، داني وأنا، إلى الجزائر العاصمة عام 1975. كان الأمر مُضحكًا للغاية. كانت السينماتيك الجزائرية مكانًا رائعًا للسينما. دُعينا، فقدّمنا "المأدبة الضخمة" (1973) لماركو فيرّيري، و"لانسلو البحيرة" (1974) لروبير بريسون. كانت القاعة ممتلئة كلّها. 90 بالمئة رجال و10 بالمئة نساء. توتّر لا يصدَّق. بعد "لانسلو"، صرخ مُشاهدٌ: "لكننا لا نرى الصراع الطبقي في هذا الفيلم" (ضحك). كانت التعليقات الماركسية من هذا النوع تدوّي من كل صوب. سافرتُ كثيرًا مع داني في تلك الفترة. أصبحنا أصدقاء مع صانع أفلام من موريتانيا يُدعى سيدني سوكونا، لا أعرف ما أصبح عليه اليوم (مخرج موريتاني رائد، أنجز فيلمين طويلين هما: "الجنسية: مهاجر" عام 1976، و"الحقّ في الكلام" عام 1978 ـ المحرّر). انفتحنا على أميركا اللاتينية: خورخي ساليينيس في بوليفيا، وميغيل ليتين في تشيلي. مخرجون يُعتبرون ثانويين آنذاك. كانت فترة معقّدة للغاية. لكن، شيئًا فشيئًا، استرجعنا شهيّة السينما، وخرجنا من الماركسية التي كانت مُقيِّدة جدًا.

(*) ثم بدأ سيرج داني يأخذ مسافة من "دفاتر السينما" تدريجيًا.
ـ لاحقًا. في أحد أيام 1981، أخبرني بهذا. أتذكّر جيدًا. كنا على رصيف شارع "فوبور سانت أنطوان"، حيث كان مقرّ "دفاتر السينما". قال لي: "قدمّت صحيفة "ليبراسيون" لي عقدًا رائعًا أكون بموجبه رئيسًا لقسم السينما. سأوافق". قلتُ: "ولكن، كيف سنفعل من دونك؟". بالنسبة إليّ كان هو الرئيس. أجابني: "لا تقلق. لن أكون بعيدًا. سأظل معك". انعقد اجتماع لهيئة التحرير أعلن فيه رحيله: "لا تقلقوا، سيرج يُمكن أن يعوّضني من دون أية مشاكل". كنتُ أبلغ 32 عامًا عندما تولّيت المنصب. ظللنا قريبَين جدًا. ظلّ يُشارك في الكتابة في "الدفاتر"، لكن التزامه الحقيقي كان مع "ليبراسيون". أحبَّ العمل معهم كثيرًا. انفجرت موهبته هناك بشكل رائع.

(*) ما هو أصعب تحدٍّ واجهك حينها؟
ـ بالنسبة إلي، الجزء الأصعب هو تعلّم الاستمتاع بالكتابة. الخروج من الصعوبة والقلق وقيود الكتابة. تطلّب ذلك وقتًا كثيرًا. قبل هذا، برفقة سيرج، غيّرنا شكل المجلة عام 1979، بإضافة فقرة أثّرت في مساري كثيرًا. قال لي: "ستضطلع بفقرة "الصحيفة الصغيرة" في الدفاتر". هكذا، أصبح لديّ في منتصف المجلة 16 صفحة حيث يمكنني ممارسة الصحافة: استطلاعات، ملخصات عن السينما، فيديو، تصوير فوتوغرافي، عمليات التصوير الجارية، إلخ. أحببتُ هذا. تعلّمتُ الصحافة مع هذه الفقرة، وكان لها تأثير على المبيعات التي ارتفعت. لذا، شعرتُ بأني وجدت أخيرًا مكاني برفقة مُحرّرين وكتاب شباب كثيرين. تذوّقت طعم الصحافة. كانت هناك مقابلات وبورتريهات ومقالات حول اقتصاد السينما، تعلّمت منها الكثير. داني لم يكن يكترث بهذا الجانب.

(*) "الصحيفة" فقرة صامدة إلى اليوم. هي إحدى أنجح فقرات "دفاتر السينما".
ـ نعم، هذا قسم يلقى إعجابًا كبيرًا لدى القرّاء.

(*) بعد أعوام عديدة، غادرت "الدفاتر".
- نعم، عام 2000. ترأست تحريرها أعوامًا عديدة. عام 1992، أنجزت فيلمًا عن تروفو بعنوان "فرنسوا تروفو، صورة مسروقة". بعدها، طلب مني جاك لانغ، وزير الثقافة آنذاك، تنظيم احتفال بالمئوية الأولى للسينما مع ميشال بيكولي. استغرق الأمر 3 أعوام (1993 ـ 1995). اضطررت إلى ترك المجلة لآخرين. للأسف، عدتُ بعد ذلك. ما كان عليّ العودة. قمت بأشياء أخرى كثيرة. في مرحلة معينة، عندما تعرف أناسًا كثيرين وسينما كثيرة، فأنت تميل إلى القيام بشيء مغاير.

(*) لماذا تقول إنك نادم على العودة؟
ـ تعرّفت إلى محرّر جيّد جدًا يُدعى تييري جوس. كان رائعًا. معًا، أنشأنا عملاً مهمًا للغاية: نشر الكتب. تمّ إصدار كتبٍ عديدة. هذه فكرتي. رأيت أن على "دفاتر السينما" أن تكون دار نشر أيضًا. هكذا، نمت الأعمال بالفعل، وألحقنا موظّفين إضافيين بالمغامرة. كنت رئيس هذا كلّه. ربما كنت مخطئًا بشعوري بالمسؤولية تجاه المؤسّسة، بينما كان عليّ أن أمرّر كل شيء إلى تييري جوس. لم أفعل ذلك.



(*) لكن فكرة نشر الكتب رائعة. هذه كتب أثّرت في جيل كامل من الـ"سينفيليين".
ـ نعم. هناك فتاة رائعة تكفّلت بها: كلودين باكو. وضعتها على رأس نشاط النشر. قامت بعمل غير عادي. توفيت منذ أعوام قليلة.

(*) ولماذا لم تعد "دفاتر السينما" تنشر الكتب اليوم؟
ـ لأنه لا يوجد من يتكفّل بهذا. ليست لديهم اليوم المتعة أو الرغبة. لذا، تركوا كلّ شيء.

(*) هذا مؤسف، لأن هناك حاجة حقيقية إلى كتب جيدة حول السينما اليوم. كتب حوارات وغيرها.
ـ بالفعل. الفريق الحالي غير مهتم. نحن أحببنا هذا. الأعداد الخاصة مثلاً. مع جان ناربوني وآلان برغالا، أنجزنا أعدادًا خاصة عن ألفرد هيتشكوك وأورسن ويلز وأندره بازان. أعداد رائعة وموثّقة بشكل جيّد، مع مقالات جيدة. بعد ذلك، جاء جيل من النقّاد أحبّهم كثيرًا: شارل تيسّون ومارك شوفري وفريديريك ستراوش وأوليفيه أسّاياس. هذا الأخير رائع، وهو مخرج أقدّره. التحق بـ"الدفاتر" في سنّ باكرة. التقيته عام 1979 بفضل صديقة. يومها، قالت لي إنها تعرف شابًا يرغب في الكتابة في المجلة. التقينا، فقلت له: "لِمَ لا. تعال". بدأ يكتب. كان رائعًا، لأنه أحضر شيئًا جديدًا ومُثيرًا للاهتمام. عام 1985، حقّق فيلمًا قصيرًا شاهدته برفقة داني، فقال لنا: "سأقوم بتحقيق فيلمي الطويل"، فكان "الفوضى" (1986). اليوم، لديه منجز سينمائي كامل. هذا شيء رائع.

عندما أصبحت رئيس تحريرها، كانت "دفاتر السينما" على خصام مع الولايات المتحدة الأميركية منذ أعوام عديدة، بسبب الأيديولوجيا ومناهضة الإمبريالية والماركسية. قلت إن أول ما سأفعله هو تخصيص عدد بعنوان "صُنع في الولايات المتحدة ". إذًا، سنذهب إلى الولايات المتحدة كفريق. اصطحبنا معنا ريمون دوباردون كمصوّر. بعضنا يذهب إلى نيويورك مع سيرج داني، وبعضنا الآخر إلى لوس أنجليس معي. نستقرّ شهرًا، وننجز عددًا. مكثنا أكثر من 3 أسابيع في فندق رخيص. كنّا نتّصل يوميًا بالمخرجين الكبار جميعهم لمقابلتهم. كانت لدينا ردود فعل إيجابية كثيرة، إلى درجة أننا قرّرنا إخراج عددين من "صنع في الولايات المتحدة"، كانا أشبه بكتاب جامع عن السينما هناك. أخيرًا، تصالحنا مع أميركا.

هذه فكرتي. عام 1984، قرّرت إنجاز عدد بعنوان "صنع في هونغ كونغ". تيسّون وأسايّاس، المتيّمان بالسينما الآسيوية، صنعا عددًا رائعًا، لم ينجح تجاريًا، لكنه بات "أشهر من نار على علم"، لأن فيه كل شيء.

فكرتي أن نسافر. أن نكتشف الأشياء عن كثب. بعد ذلك، حقّقنا "صنع في الاتحاد السوفييتي" قبل سقوط الجدار عام 1989. سافرت إلى هناك برفقة سيرج داني. هاجسي الانفتاح، وأن نكون فضوليين، وألّا نحصر أنفسنا في رؤية ضيّقة للسينما.




دلالات
المساهمون