سيادة الرئيس... أريد أن أهرش!

25 ابريل 2019
+ الخط -
(في السابع من إبريل عام 2008 تناقلت وكالات الأنباء صورًا حزينة التقطها مصور جريدة البديل المستقلة لشباب من مدينة المحلة الكبرى تعرضوا للإصابة خلال المظاهرات التي اندلعت في المحلة يوم السادس من إبريل الذي كانت القوى المعارضة قد دعت لإعلانه يوم إضراب عن العمل.. رأى العالم بأسره في الصور المفزعة كيف يرقد الشباب المصاب على أَسِرّة المستشفيات مغمى عليه من الإعياء والفزع والأسى.. وبرغم ذلك كان أولئك الشباب ويا للعجب مقيدين بكلابشات إلى الأَسِرّة كأنهم من عتاة المجرمين.. هزتني الصور من الأعماق فكتبت من وحيها هذا الخطاب الافتراضي من مواطن محلاوي كلبش حب الوطن في قلبه وكلابشات الوطني في يده إلى رئيس البلاد وحاكم العباد..)

سيادة الرئيس..
أكتب لسيادتك بالقلم الرصاص.. عنوان المحبة والإخلاص.
الكدب خيبة سيادتك. صحيح أن هذه الرسالة مكتوبة بقلم رصاص دفعنا رشوة لعم حسنين عامل النضافة لكي يدخله إلينا من ورا ضهر الحراسة، لكن الحقيقي أنني لست أنا الذي أكتب، بل أنا أملي هذه الرسالة على مريض يزاملنا في العنبر طلب عدم ذكر اسمه، برغم أن الدكاترة قالوا إن أمامه بالكثير أسبوعين لكي يريح ويستريح، أي أنه ليس لديه ما يخشاه، لكنه يخشى أن يطلع تشخيص الدكاترة خطأ ويكتب له عمر جديد فيكمل جلسات العلاج في السجن. والحقيقة أيضًا أن حكاية القلم الرصاص كانت من بنات أفكاره هو ليس استرخاصًا وإنما لأنه يرى أن ذلك يسهل التخلص مما كتبناه إذا حدثت كبسة على العنبر.

كنت أتمنى أن أخط لسيادتك هذه الرسالة بيدي لكي تشعر بنبض مشاعري مباشرة، كان نفسي والله، لكن المشكلة أن يدي اليمنى غرزوا فيها إبرة المحلول، الذي تُقطِّمني الممرضة بأنه خسارة في جتتي كلما قامت بتغييره، ويدي اليسرى كما تعلم سيادتك قيدوها بالكلابش إلى ضهر السرير المعدني، أنا آسف لأنني افترضت أن سيادتك تعلم بأن هذا حدث، فقلبي يحدثني أنك لا تعلم بأن هذا يحدث لأحد أبنائك، لكن لساني لم يطاوعني أن أقول إنك لا تعلم، لأن المفروض أن سيادتك تعلم بكل كبيرة وصغيرة في هذا الوطن، الحقيقة أن لساني طاوعني، لكن زميلي الذي يكتب ما أمليه عليه هو الذي نصحني بألا أفترض أن سيادتك لا تعلم بهذه الحال، لأن ذلك من الممكن أن يوقعني تحت طائلة القانون، وأنا اللي فيّا مكفيني.


زملاؤنا المرضى الذين لم يحدد لهم الأطباء بعد موعدًا لمغادرة الحياة، يقولون لي إنهم سمعوا طبيبًا شابًا ابن حلال يقول لزملائه الذين ليسوا كذلك أن صورتي وأنا نائم ويدي مقيدة في السرير تمكن مصور صحفي ماكر من التقاطها ونشرت في كل أنحاء الدنيا، ومع أنني فرحت عندما سمعت ذلك لأن صورتي وأنا متبهدل كل هذه البهدلة ستصل إلى سيادتك وستأمر بمعاقبة الذين كانوا وراء هذه البهدلة، إلا أن زميلي الكئيب الذي يستعد لمغادرة عهد سيادتكم إلى رحاب الله قال لي إن هذه الصورة ستجر لي مزيدًا من الخراب والبهدلة، وإنه مش بعيد أن يقيدوا يدي الأخرى إلى الناحية الأخرى من ضهر السرير، فضلًا عن تقييد قدميَّ الاثنتين إلى رجل السرير، وذلك لأنني تعاونت في صناعة صورة كهذه يمكن أن تظهر عهد سيادتكم على غير حقيقته، عهد يقيد المرضى إلى أَسِرّتهم كما لم يحدث من قبل في العالم كله، هكذا قال زميلي الكئيب محذرًا إياي، فجعل الخوف يكاد يجعلني أفعلها على روحي، لكنني امتنعت عندما تذكرت ما يمكن أن تفعله بي الممرضات لو حدث ذلك، أخذت أحلف بالله لسيادتك كأنك أمامي أنني لم أرَ جنس مصور منذ دخلت إلى هنا، وأنني كنت رايح في سبعين نومة لأن جسمي كله كان بينقح عليَّ من كتر الضرب، ظللت أرتجف من الخوف وأسح في الدموع حتى صعبت على كل من معي في العنبر، ولم يجعلني أتوقف عن الارتجاف والبكاء سوى نزيل آخر طلب ذكر اسمه هو الحاج عبد البديع الذي دخل ليكشف على الكلى فاكتشف أن لديه كلية واحدة فقط والأخرى سرقت عندما دخل إلى المستشفى منذ سنتين لكي يستأصل المرارة، الدكاترة قالوا له إن كليته لم تسرق بل ذابت، وعندما اعترض قالوا له إن الله قادر على كل شيء، فخاف أن يعترض لكي لا تطلع عليه سمعة أنه دانماركي مسيء للإسلام، عم عبد البديع طمأنني قائلًا إن ظهوري في الصورة نائمًا يمكن أن يطلعني من القضية صاغ سليم، فإذا كان الله عز وجل يسامح الذي يترك صلاة الجمعة إذا كان نائمًا، فكيف يؤاخذ عباده من كان نائمًا على تصويره أثناء النوم، زميلنا الكئيب سكت ممتعضًا وهو ينظر إليَّ وأنا أحتضن عم عبد البديع وأدعو له الله أن يخرج من المستشفى ببقية أعضائه سالمة، وقاطع فرحتنا بقوله: «طيب لو طلعت من قضية التصوير.. هتطلع إزاي من قضية الشغب يا خفيف؟»، عدت لأرتجف وأبكي فيما انقض عم عبد البديع عليه وطلب منه أن يعود ليتلقح في سريره متطوعًا بمواصلة كتابة هذه الرسالة، ومقررا أن ينتقم من زميلنا الكئيب بذكر اسمه صراحة في هذا الخطاب كي ينال جزاءه العادل، لكنني استحرمت وطلبت منه أن يتركه يموت في سلام على رجاء القيامة.

سيدي الرئيس.. أنا آسف لأنني لم أنقل لك تحيات عم عبد البديع وكل المرضى المجاورين لنا في العنبر، وعددهم: عشرة فشل كلوي، واتناشر فشل كبد، وأربعتاشر أورام متفرقة، جميعهم حمّلوني أنا وعم عبد البديع السلام أمانة لسيادتك، وجميعهم ينقلون لسيادتك رغباتهم الحارة في أن تنظر إليَّ بعين العطف والحنان اللذين تعوداهما دائمًا كمواطنين في عهد سيادتك الذي نشئوا وترعرعوا وشبوا ومرضوا في ظله.

سأفترض أن سيادتك شاهدت الصورة، التي يقولون إنها التُقطت لي وأنا نائم، وعهد الله كنت نائما، وسأسأل سيادتك، أستغفر الله العظيم، تخيل سيادتك أن الشيطان وسوس لي أن أقول لسعادتك أن تضع نفسك مكاني وأنا في هذا الحال، بل ووسوس لعم عبد البديع أن يكتب ما قلته، والله سيادتك لو كانت يدي حرة طليقة لنهضت من فوري، وضربت نفسي وعم عبد البديع والشيطان بالحذاء لكي لا ينفث في العقد بخيالات مريضة مثل هذه، لكن يدي مقيدة ويد عم عبد البديع مشغولة بالكتابة، ولذلك اكتفيت أنا وعم عبد البديع بأن استعذنا بالله من الوسواس الخناس، فنحن لا نحب أبدًا أن نتصور أن سيادتك مكاننا أبدًا، متعك الله بالصحة والعافية لأن مصر تحتاجك، أما نحن فلديها منا الكثير.

المشكلة أن الشيطان يجري فينا مجرى فيروس سي في الدم، ولذلك نعلم أنه سيعود إلينا طالبا أن نسأل سيادتك هل يرضيك أن يتعرض لما أتعرض له أحد أبنائك أو أقاربك، لو ـ لا قدر الله ـ دخل المستشفى ذات يوم؟ لذلك لكي لا يدخل الشيطان بيننا أبدًا، قررنا أن نسأل سيادتك السؤال بشكل غير مباشر: هل يمكن أن يتعرض لما أنا فيه الآن من كلبشة في ضهر السرير ابن أحد الوزراء أو الكبراء أو اللواءات أو المحافظين أو رجال الأعمال؟

كنا فرحين أنا وعم عبد البديع بهذه الصيغة للسؤال التي تخرجنا من أي مساءلة قانونية، وتوصل في نفس الوقت لسيادتك ما نريد أن نقوله، لولا أن جاءنا من آخر العنبر صوت الكئيب ابن الكئيبة لكي يقول لنا: «و هو في حد من دول ولّا ولادهم ولّا قرايبهم هيتعالج في مصر أساسًا؟ دول بيطلعوا من بره بره يتعالجوا بره، وبره ما فيش كلابشات أساسًا في الأقسام عشان يبقى فيه كلابشات في المستشفيات» لم نستطع أن نرد عليه الصراحة، ولذلك قررنا أن نبلغ عن اسمه، سيادتك اسمه عدلي عبد الشهيد، زملاؤنا المسيحيون يقولون إنه مسلم، ونحن نقول إنه مسيحي، وعندما نجتمع سويًا نقول إنه زي الفقر ما لوش ملة.

عم عبد البديع يرى أن لا نضيع وقت سيادتك في أي مقدمات عبثية وأن ندخل في الموضوع مباشرة، بعيدًا عن محاولة تقريب صورة ما أنا فيه لسيادتك، لأنه متأكد أن سيادتك لو شاهدت صورتي أو سمعت عنها لن يرضيك أبدًا ما حدث لي وستأمر فورًا بمحاسبة المسئول عنه. الحقيقة أن عم عبد البديع متفائل بطبعه، بدليل أنه صدق أن كليته ذابت ونزلت وهو يقضي الحاجة، عندما لمته قال لي: «يا ابني العيشة اللي احنا عايشينها دي تدوب الصخر مش هتدوب كليتي».

أنا لست عبد البديع، طموحاتي بسيطة، أنا لا أريد أن أحاسب أحدًا، لا الذين اعتقلوني، ولا الذين ضربوني بالرصاص المطاطي، ولا الذين ضربوني على قفايا، ولا الذين سبوني بالأب والأم، ولا الذين قيدوني إلى ضهر السرير كأنني خطر داهم على هذا الوطن، خطر لا يحتمل حتى حراسة إضافية بل يتطلب تقييدي كذبيحة لا أريد أن أحاسب الذين حكموا عليَّ قبل أن يحاكموني، ولا حتى الذين يأتون إليَّ كل يوم ليطلبوا مني بحزم أن أشد حيلي عشان يطلعوا عين أهلي لما أخرج.


سيدي أنا لديَّ مشكلتان لا ثالث لهما، الأولى مع الذباب الشرس الحقير الغتيت، الذي يحاصرني في هذه المستشفى الكئيبة، ذباب واعي سافل يتعمد أن يحط على الجهة اليسرى من وجهي كأنه يعلم أنني لن أتمكن من هشه بيدي المقيدة، والله العظيم يا سيدي أنا مستعد أن أدلي باعترافات تفصيلية عن دوري المزعوم في المؤامرة التخريبية كما وصفها الضباط الذين عكشوني، مقابل أن يفكوا الكلابش فقط لكي أهش الذباب المتوحش عني.

مشكلتي الثانية هي أنني أشعر بأكلان فظيع في ضهري، لا أدري هل سببه الحشرات التي يقسم زملائي أنها أقدم في المستشفى من بهيرة كبيرة الممرضات، أم سببه رقودي على السرير على وضع واحد كل هذا الوقت، مع أن التغيير سنة الحياة، نبهني عم عبد البديع إلى التباس الجملة الأخيرة وكونها يمكن أن تسوء موقفي في القضية، لكنني أقسم لسيادتك إنني لا أقصد منها شيئًا سوى أنني فعلًا أريد أن أمارس حقي الدستوري في الهرش وتغيير وضع رقودي على السرير، فأنا لست دولة تستحمل أن تعيش ربع قرن على وضع واحد دون أي تغيير، أنا بشر ضعيف خُلِقت من تراب، وسففت التراب ويلزمني بين الحين والآخر أن أتقلب على الجنبين، فهل هذا كثير عليَّ سيادتك؟

سيدي الرئيس. والله العظيم وليس لسيادتك على شعبك حلفان، هل تعلم أنني أحلم كثيرًا بأن كل ما أنا فيه سينتهي فجأة، عندما تدخل سيادتك علينا فجأة في زيارة مفاجئة، لكي تقول لنا إنه لا يرضيك أبدًا أن يعامل مواطن في عهدك هكذا، حتى لو كان مخطئًا أو مشتبهًا في خطئه؟ وأن سيادتك تؤمن بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته عندها فقط تصح كلبشته؟

عارف سيادتك. طيلة عمري كنت أحلم بأن أصاب يومًا ما بكسور ورضوض في حادثة قطار أو أصاب بحروق من الدرجة الأولى في حريق مسرح أو أنجو من الغرق في عبّارة أو أتعرض لجروح قطعية في انقلاب بيجو سبعة راكب، فقط لكي أحظى بذلك المشهد المهيب الذي حظي به الآلاف قبلي، أعني مشهد دخول سيادتك إلى عنبر المستشفى لكي تتفقد المصابين، وتنحني عليهم ودودًا حنونًا تلاطفهم وتطمئن عليهم وتطبطب عليهم وتوصيهم بأن يبطلوا دلع ويشدوا حيلهم، يا الله، هل من الممكن أن أحظى بشرف كهذا، وأرى صورتي مع سيادتك في الجرنان وأنت تمسك بمفتاح الكلابش وتفكه بيدك الكريمة وقد كتب تحت الصورة «سيادة الرئيس الأب يتفقد أحد أبنائه المصابين»؟

أنا آسف سيادتك. عدلي مش ناوي يجيبها لبر. من جديد أخرجني صوته من أحلامي، عم عبد البديع نفسه، كان قد بدأ يحلم بأن يتصور مع سيادتك وأنت تعده بأن كليته الباقية لن تذوب بأي شكل، «هو انت فاكر نفسك ناجي من الغرق أو الحريق أو الموت؟ إنت يا ابني ممسوك في قضية شغب.. فكيف تحظى بشرف كهذا لا يناله إلا المغدور بهم أو المصابون بشرف؟».

خرجت في المظاهرات.. نعم.. أعترف سيادتك.
لن ألف ولن أدور ولن أحلف بالله كذبًا إنني كنت رايح درس أو جاي من مجموعة.. لن أقول إنني خرجت لكي أتفرج وفوجئت بأنني ممسوك.. عم عبد البديع يطلب مني أن أمسح كل ما قلته الآن.. لكنني عاهدت نفسي أن أكون صادقًا وأنا أكتب إليك.. قد أكون مخطئًا لأنني خرجت في المظاهرة، بلاش أنا فعلًا أخطأت.. لكن ماذا أفعل وأنا على آخري ككل الذين أعرفهم؟ خرجنا لكي نفش غلنا ونصرخ لعل أصواتنا تصل إلى سيادتك فترحمنا من الغلاء والكواء والخواء والبلاء والغش حتى في الدواء.. خرجنا لكي نسأل سيادتك كيف يمكن لأهالينا أن يضمنوا لنا حياة كريمة بمرتبات لئيمة؟ كيف يمكن لنا أن نحلم بالمستقبل ونحن ندرس في مدارس وجامعات لا نتعلم منها شيئًا ينفعنا في الدنيا أو الآخرة؟ نعم يا سيدي خرجت في المظاهرات كغيري.. لكن لا أنا ولا أحد من الذين أعرفهم أحرقنا مدرسة أو نهبنا محلا أو اقتحمنا مطعمًا أو كسرنا جهاز كمبيوتر.. سمعت أنهم أحرقوا المدرسة فحزنت.. صحيح أنني لم أتعلم فيها شيئًا ذا بال لكنني حزنت لأنني قضيت فيها أياما جميلة وضحكت فيها من قلبي أنا وزملائي كما لم أضحك من قبل وكما لن أضحك من بعد.

سيدي الرئيس.. أنا حزين على كل طوبة رميت بوجه عسكري أمن مركزي أمروه أن يقمعنا فقمعنا وهو يرتعد خوفًا.. حزين على كل شجرة أحرقت فوق شريط القطار..حزين على كل محل نهبوه.. على كل مطعم لم يأكلوا فيه فأكلوه.. على كل فصل اقتحموه وأشعلوا فيه النار.. حزين على أن نصل جميعًا إلى هذه الحال.. لكنني حزين أيضًا على حياتي وعلى حياة كل الذين أعرفهم.. هل تتصور سيادتك أننا نعشق التظاهر ونهوى الإضراب وندمن الوقفات الاحتجاجية؟ هل تظن سيادتك أننا كنا سنخرج من بيوتنا أساسا لو كنا نشعر بالرضا عن اليوم أو الأمل في بكره؟ أعلم أنه لا يوجد أبدًا ما يبرر خروجنا كي نولع في مدينتنا.. في شوارعنا.. في مدارسنا.. لكن ماذا نفعل إذا كانت الحياة في بلادنا جعلتنا نرغب في أن نولع في أنفسنا.

سيدي الرئيس أنا جاهز لكي أتحمل المسئولية عن كل ما ينسب إليّ.. مستعد لكي أمثل أمام القضاء.. مستعد لأن تقيد كل أطرافي إلى جميع أرجاء السرير.. لكن فقط بعد أن تثبت إدانتي.. مستعد لأن أحاكم ولكن بعد أن يحاكم معي كل الذين سرقوا مني الأمل وحرموني من أن أحلم بغد أقل سوءًا.. بعد أن يحاكم معي كل الذين غرفوا من خيرات هذه البلاد دون أن يعطونا منابنا.. بعد أن يحاكم معي كل الذين أشعلوا النيران في آدميتنا وانتمائنا وحبنا لهذه البلاد التي عشنا فيها سنين راضين بقليلنا لأننا نؤمن أن القليل من الحبيب كثير.

سيدي.. أنا مضطر أن أتوقف الآن لكي أترك عم عبد البديع يرتاح من نوبة البكاء التي أصابته.. لكي أطمئن على عدلي الذي أعطانا ضهره وأخذ يرتجف.. لكي أطلب من الجميع أن يكفوا عن النشيج الحاد لكي ننجو من غضب الحراس الذين اقترب موعد تفتيشهم المفاجئ لنا.

سيدي الرئيس.. أنا الآن أعرف ما أريد..
أنا لم أعد أريد لا حبًّا ولا حنانًا.. ولا حلًّا..
لم أعد أريد لا الخبز ولا الحرية..

لم أعد أريد لا الحراك السياسي ولا العدالة الاجتماعية.. لم أعد أريد تكافؤ الفرص ولا فرص التكافؤ..لا التنمية الشاملة ولا الخروج من عنق الزجاجة.

كل ما أريده أن تأمرهم سيادتك أن يفكوا قيودي.. فأنا حقًا أريد أن أهرش.

ـ فصل من كتاب (السكان الأصليين لمصر) نشر لأول مرة في 2008 وصدرت طبعته الجديدة مؤخراً عن دار المشرق ـ
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.