سويسريّة الصُنع

04 فبراير 2015
+ الخط -
تعتبر التسمية الشهيرة "سويسرية الصُنع"، أو"Swiss Made"، فريدة من نوعها. وهي تسمية اُعتمدت رسمياً في أواخر القرن التاسع عشر، والمستخدمة على نطاق عالمي اليوم للإشارة إلى أن مُنتجا ما قد صُنع في سويسرا. ذلك أن معظم الدول الأخرى تستخدم عبارة "صنع في (اسم البلد)". جاءت هذه التسمية للدلالة على أن سويسرا أصبحت علامة مميزة في الصناعات المتطورة التي ارتبط تاريخها بالساعات الأكثر دقة واحترافية بالعالم، إضافة إلى صناعات متعددة لا تقل شهرة مثل الأدوية والآلات والمواد الكيميائية. 
في الواقع، فإن جمهورية سويسرا الفيدرالية، الواقعة في وسط أوروبا والتي يزيد عدد سكانها قليلاً على ثمانية ملايين نسمة، هي موطن لأكبر 15 من بين 500 شركة في العالم، وهو عدد يتجاوز غيرها من الدول الأوروبية مثل هولندا وإسبانيا. حيث تبرز شركة "نوفارتيس" و"روش" في القطاع الدوائي، ومصرفا "اتحاد المصارف السويسرية" (UBS) و"كريدي سويس"، وشركة التأمين العريقة "زيورخ". كذلك، تُصنَّف سويسرا من أكثر الدول تنافسية في العالم من قِبل المنتدى الاقتصادي العالمي، والأولى على مؤشر الابتكار العالمي الذي تُعدّه جامعة "كورنيل" الشهيرة.
كان لهذا المستوى المتقدم من التنافسية والابتكار تأثير إيجابي على الاقتصاد السويسري. فالناتج المحلي الإجمالي للفرد هو من بين أعلى المعدلات في العالم. أما نسبة البطالة، فهي لا تتجاوز 3% من مجموع السكان القادرين على العمل، وتعتبر هذه النسبة من بين أدنى نسب البطالة في العالم.
ومما لا شك فيه، أن التجربة السويسرية هي ثمرة جهود ضخمة من قبل الدولة قامت فيها بتجذير قيم المساواة والعدالة بين أفرادها منذ البدء، وابتكارها لنظام تعليمي ونقل متطورين للغاية، إضافة إلى أن استثمارها في الموارد البشرية جعلها في طليعة الدول التي تقدم نموذجا راقيا في التلمذة الصناعية.
إن ميل سويسرا نحو "العولمة" قد حدث قبل فترة طويلة من اختراع هذه الكلمة، حيث تجلى ذلك بوضوح من خلال موقفها من الهجرة حينما أصبحت ملاذاً لأولئك المُضطهدين في بلدانهم، مثل الهوجوينوتس في فرنسا الذي انتهى بهم الأمر إلى إرساء أسس مصرفية متينة، وقيام صناعات ضخمة باتت سويسرا تشتهر بها مثل صناعة الساعات والأدوية.
في الواقع، فإن اثنين من أكثر الشركات شهرة في سويسرا لم يتم تأسيسها من قبل رجال أعمال محليين، ولكن عن طريق مهاجرين من بلدان أخرى. جاء هاينريش نِستله إلى سويسرا من ألمانيا لإقامة ما هو الآن أكبر شركة للمواد الغذائية في العالم، في حين هاجر نيكولا حايك من لبنان لخلق العلامة التجارية "سواتش"، حيث أنقذ بمفرده صناعة الساعات من الانهيار في البلد الذي تبناه ودعم استثماره.
ساهم هذا الانفتاح في جعل سويسرا موقعاً جذاباً للشركات متعددة الجنسيات. على سبيل المثال، وضعت شركة "جوجل" أخيراً، أكبر قاعدة أبحاث خارج الولايات المتحدة الأميركية في البلاد، في حين أن أكبر فرع أوروبي لأبحاث شركة IBM يقع في زيوريخ، وهي المدينة الأكبر في سويسرا التي حصلت على أفضل مدينة للعيش في العالم لثمانية أعوام متتالية.
وينعكس هذا الانفتاح أيضاً في جامعاتها، حيث تُصنّف سبع جامعات سويسرية من بين أفضل 200 جامعة في العالم، وهذا يُبرر وجود أعلى نسبة طلاب أجانب في جامعاتها مقارنة بأي مؤسسة تعليم عال في أوروبا. وليس مستغرباً، بالتالي، أن يكون لسويسرا أكبر عدد من الحائزين على جائزة نوبل في العالم كنسبة من عدد السكان، وهذا يعكس الاهتمام البالغ الذي توليه الدولة في نشر ثقافة المعرفة في مجتمعها الصغير.
بالطبع، يمكن القول، جدلاً، إن نتيجة لاتباع سويسرا سياسة خارجية محايدة على مدى 500 عام، فإن موقفها الحيادي خلال الحرب العالمية الثانية ساعدها على البروز الاقتصادي، وذلك عندما استفادت الشركات المصرفية السويسرية من الحرب التي مزقت أوروبا، فازدهر قطاعها المصرفي. ومع ذلك، فإن هذا الطرح لا يُعتبر كافياً لتفسير سبب تفوق سويسرا في مجموعة من الصناعات الأخرى على مدى العقدين الماضيين، ذلك أن قصة النجاح السويسرية تطورت اليوم لتصبح أكثر أهمية بدرجات من حيث انتشارها العالمي وتأثيرها الصناعي.
(خبير ومحلل اقتصادي أردني)
المساهمون