وجد عشرات الآلاف من اليمنيين الشباب أنفسهم على أرصفة البطالة مجدداً بعد تراجع الأعمال، وتوقف التعليم بسبب الحرب. وهو ما دفعهم للبحث عن بدائل لتأمين مصادر دخل بديلة، فكانت السوق السوداء أبرز هذه البدائل، لا سيّما مع تساهل الأجهزة الأمنية.
ومن ذلك شراؤهم المشتقات النفطية بأسعارها الرسمية بطرق مختلفة، وبيعها للمواطنين في السوق السوداء بأسعار مرتفعة بسبب ندرتها في محطات الوقود. ولا يعتبر سليم عبد الخالق (28 عاماً) تجارة مثل هذه معيبة أو تجاوزاً للقانون. فهي "عملية بيع وشراء ربحها حلال ما دامت البضاعة غير مغشوشة" بحسب ما يقول. ويضيف لـ "العربي الجديد": "أشتري حصتي من المشتقات النفطية بشكل رسمي، ومن حقي بيعها في أي مكان وبأي سعر يرضى به المشتري".
ويشير إلى أنّ أرباحه المرتفعة تعود لتعويض تحمله عناء الاصطفاف بسيارته في طوابير طويلة لأيام كي يحظى بفرصة تعبئة سيارته بالبنزين. ويفسر: "أعمل سائق سيارة أجرة، ولأنّ عملي لم يعد مجدياً بسبب ندرة المشتقات النفطية وانخفاض أعداد طالبي الخدمة كما كانوا في السابق، اضطررت للعمل في بيع المشتقات النفطية. فأملأ البنزين من المحطة، لأفرغه لاحقاً وأبيعه بسعر أعلى في السوق السوداء".
في المقابل، يرفض المواطن عبد الفتاح الخلقي مثل هذه الممارسات، ويعتبرها أحد أسباب انقطاع المشتقات النفطية التي تنعكس سلبا على حياة المواطنين. ويصف الخلقي المتاجرين بالمشتقات النفطية في السوق السوداء بـ "المتاجرين بمعاناة المواطنين". ويطالب الجهات الأمنية بضبطهم. ويقول: "يجعل بعض الناس شراء الوقود همه طوال اليوم. فترى أحدهم يكرس نفسه للاصطفاف والتعبئة من عدة محطات بينما يتكفل أخوته أو أصدقاؤه ببيع الكميات في السوق السوداء". ويشير إلى أنّ كثيراً من المواطنين لا يستطيعون توفير البنزين، بسبب تعرض الكميات الشحيحة المتوفرة لضغوط "هؤلاء المستغلين".
غاز الطبخ المنزلي بدوره يتعرض لمثل هذه المساومات. وغالبا ما تترك مهمة تعبئة أسطوانات الغاز للأطفال، وهذا ما جعل بعض الآباء خلال الفترة الماضية يدفعون بأطفالهم للاصطفاف في طوابير طويلة أمام محلات بيع الغاز بالأسعار الرسمية، ليبيعوا بعدها هذه الأسطوانات بأسعار مرتفعة. ويُشاهد مئات الأطفال في طوابير طويلة أمام محطات البيع. ويؤكد شهود عيان أنّ الكثير من الآباء يبيعون غاز الطبخ لأصحاب السيارات الصغيرة التي تعمل عليه.
من جهته، يعتبر رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، أنّ السوق السوداء واحدة من مظاهر غياب الدولة ومؤسساتها. ولذلك تمثل حالة شاذة لا تحتكم فيها السلع والخدمات المقدمة لطبيعة النشاط الاقتصادي الذي تحكمه قواعد العرض والطلب.
ويؤكد نصر لـ "العربي الجديد" أنّ السوق السوداء "نوع من أنواع الفساد. فأصحاب النفوذ يلجؤون عادة لاستغلال سلطتهم والاستحواذ على كميات كبيرة من السلع الأساسية المدعومة حكومياً ومحاولة خلق الأزمة، وذلك بهدف تحويل السلع إلى السوق السوداء التي يحصلون بموجبها على أسعار أعلى ومبالغ أكثر خلال أيام". ويبيّن أنّ الوظائف التي خلقتها السوق السوداء موقتة يلجأ إليها بعض المواطنين تحت ضغط الحاجة. لكنه يشير إلى أنّ الفرص التي وفرتها السوق السوداء أقل من الفرص التي يخلقها النشاط الاقتصادي الطبيعي. ويضيف: "عندما تخلق السوق السوداء وظيفة للمتعاملين معها فإن خمسة آخرين يفقدون أعمالهم بالمقابل، ويذهبون إلى رصيف البطالة وهي في نهاية المطاف وظيفة موقتة". كما يلفت إلى أنّ الأرباح المرتفعة تذهب لكبار النافذين والمسؤولين عن السوق السوداء، أما صغار العاملين فيها فاستفادتهم محدودة وعناؤهم خلال الشراء والبيع كبير.
عودة السيارات القديمة
تنتشر في شوارع اليمن سيارات صغيرة تحمل ماكينات ضخ للمشتقات النفطية. وتتفاوت أسعار صفيحة البنزين لتصل أحياناً إلى 150 دولاراً أميركياً، بينما لا يتجاوز سعرها الرسمي 15 دولاراً. كما يستخدم البعض سيارات قديمة كبيرة الخزانات بهدف المتاجرة. فيصطفون بها أمام محطات المحروقات، علماً أنّهم لم يستخدموها منذ سنوات بسبب مصروفها الكبير من الوقود بحسب بعض المواطنين.
اقرأ أيضاً: مخلّفات الحرب تهدّد اليمن