سوق سوداء... سماسرة ينهبون المهاجرين إلى السويد

11 يناير 2019
رحلة البحث عن سكن (ديفيد راموس/ Getty)
+ الخط -

في الوقت الذي يواجه فيه المهاجرون الجدد إلى السويد متاعب لإيجاد سكن في المدن الكبرى وعلى أطرافها، فإنّ آخرين يستغلون هذه الحاجة للتربح على حساب أبناء بلادهم الأصلية، عن طريق السمسرة

في مدينة أوبسالا، على بعد نحو ساعة إلى الشمال من العاصمة السويدية استوكهولم، تجتمع مجموعة من النساء المهاجرات حول طاولة لتعلم استخدام الكومبيوتر، في دورات مجانية في مقر اتحاد مهاجرين متخصص بمساعدتهن، من خلال ناشطين متطوعين من جنسيات مختلفة. وهي محاولة لتخفيف أعباء الغربة، وتسهيل الاندماج على بقية المهاجرين. لكنّ قضايا كثيرة تشغلهن وأسرهن في ما استقصت حوله "العربي الجديد" عن أكثر القضايا إرهاقاً وسلبية في مجتمع الغربة الذي يتلمس طريقه للاندماج في ظل أنظمة وقوانين وثقافة مختلفة عن دول المنشأ، وعلى رأسها مشكلة مشتركة بين هذه العائلات: العثور على مسكن.

بعض المهاجرين في السويد، يجدون أنفسهم اليوم، بعد فترة انتظار الإقامة، في رحلة أخرى للانتقال إلى سكن قريب من المدن الكبيرة. منهم من يصف الرحلة: "تجد نفسك بعد الحصول على الإقامة، على قارعة الطريق إن لم تقبل القرية أو المنفى الذي يريدون إسكانك فيه" بحسب "منال م.". وهكذا يجدون أنفسهم عرضة للاحتيال عبر سماسرة في المدن الكبرى كالعاصمة استوكهولم، وأوبسالا ومالمو.

خلفية
لا تفرض قوانين السويد على المهاجرين بعد حصولهم على حق اللجوء، مكان سكتهم، لكنّ تشدد شركات السكن في قبول السكان الجدد، خصوصاً شرط العمل، بات يصعّب المهمة على من هم في رحلة تعلم اللغة والاندماج والتأهل للعمل حتى الآن، كما أنّ انتظار الشقة يمتد سنوات: "كي يأتي الدور عليك قد تنتظر على الأقل أربع سنوات إن كنت ترغب في الإقامة بمدينة كبيرة" كما يوضح أحد المهاجرين العرب المتواجد في السويد منذ فترة بعيدة، والعامل في حقل الدمج.




يشكو البعض في السويد من سياسة الإسكان بعد الإقامة باعتمادها سكناً مشتركاً للأسر والأفراد. فبعض العائلات تجد نفسها تتشارك المسكن مع أخرى من غير جنسياتها، بمطابخ وحمامات مشتركة، ما يخلق بحسبهم "أجواء مشحونة، خصوصاً حين يكون القاطنون فيها ليسوا من نفس الخلفية الثقافية". البلديات من جهتها، تعتبر أنّها بتأمين السكن المشترك، تؤدي واجبها بحسب قانون الدمج، بما يشمل تأمين مدارس أطفال ودورات لغة ودمج للكبار، وتأهيل للعمل بالتعاون مع مراكز التشغيل.

وفي حال اختيار المهاجرين الخروج عما هو محدد في النظام، أي الرغبة في الانتقال من مناطق نائية في أقصى شمال البلاد، فيتعين عليهم مواجهة "تحديات المسكن ومدارس الأطفال واللغة بأنفسهم من دون كثير من المساندة من البلديات" بحسب ما تصف لـ"العربي الجديد" عبير، بالتوافق مع صديقتها "منال م.".

إرهاق
المتحدثون مع "العربي الجديد" من مهاجري سورية؛ سوريين وفلسطينيين، يشكون ما يسمونه "إرهاق سماسرة السكن لجيوبنا". بعض النساء يتحدثن بغضب عن "سمسرة السكن التي باتت حالة فساد، كما سماسرة مكاتب عقارية في سورية". في شهادة إلى "العربي الجديد" أمام مجموعة ممن يعانون من هذه المشكلة، تذكر "رنا س." الآتية من عفرين السورية منذ نحو 3 أعوام، وهي خريجة جامعة حلب، أنّ "معظم الناس يخشون الخوض في مثل هذا الأمر الحساس علانية لأنّهم يحتاجون بالفعل إلى سكن، وهم مضطرون لدفع مبالغ مالية تحت الطاولة لتأمين مسكن عبر سماسرة، وهذا موضوع حساس ويعتبر تابو، لما يرتبط بممارسات أخرى تجرها رغبات البعض في التربح على حساب القوانين والمهاجرين الذين هم مثلهم، ولهذا كان الموضوع يطرح بصيغة الهمس قبل أن يصل إلى مستوى الإرهاق للمهاجرين".




تتدخل أم لثلاثة أطفال لتعبر عن امتعاضها وخسارتها للمال في أسلوب لا يخلو مما تسميه "احتيالاً". ميسون أرادت الانتقال إلى منطقة قريبة من أوبسالا: "بدلاً من العيش في عزلة وبرد الشمال، أردنا أن نجد مدارس للأبناء في مدينة كبيرة، أو بالقرب منها. ومن خلال بعض المعارف توصلنا إلى رقم شخص قال: أنا سأحاول مساعدتكم... لكن بصراحة فالأمر سيكلف، والمال ليس لي، بل لمن سيؤمّن المسكن لكم". تضيف: "بعد مفاوضات خفّض مبلغ السمسرة من 20 ألف كرونه (2235 دولاراً أميركياً) سويدية إلى 8 آلاف (895 دولاراً) بسبب استحالة تأمين المبلغ الأساسي بعد سنة ونصف السنة في السويد. وبعد الدفع فقط سمحوا لنا برؤية المسكن ليتبين أنّه قديم شبه منهار، ويقع منعزلاً في غابة بعيدة عن المدينة. لديّ ابنتان مراهقتان خشينا عليهما من السكن بعيداً نحو ساعة عن المدرسة، فتراجعنا عن قبوله، لكنهم لم يعيدوا المبلغ لنا ولم نجرؤ على الشكوى". تجد ميسون وزوجها وأطفالها أنفسهم اليوم مسجلين في عنوان "لدى بعض المعارف" ليتسنى لهم الحصول على المساعدة المالية الشهرية من البلدية.

قبل أشهر، اتهم عدة أشخاص في مالمو، جنوب غرب البلاد، سويديين ومهاجرين عرب، بـ"التلاعب بنظام الدور في قوائم شركة سكن". وبحسب ما توصلت إليه "العربي الجديد" من خلال أحد الموظفين الرسميين في مجال الدمج الذي اختار أن نسميه "مورتن" فإنّ القصة "تبدأ عادة بوجود علاقة صداقة بين موظف وشخص ما (مهاجر من أصل عربي)، فبعد وصول دفعة كبيرة من المهاجرين عام 2015، كان هناك جو متعاطف، ومن خلال هذه الصداقة كان يطلب من الموظف المساعدة مثلاً بوضع اسم أسرة باحثة عن سكن في مقدمة النظام قبل مئات المنتظرين، ويعده ببضعة آلاف كهدية، وهو أحد أساليب الاحتيال التي جرت في مالمو وغيرها، فيما موظفون آخرون قاموا بذلك لدافع إنساني وليس لقاء المال".



إذاً، حين يتجاوز البعض دور الانتظار للحصول على سكن فإنّ "التكلفة تتراوح بين 40 ألف كرونه (4470 دولاراً) و70 ألفاً (7829 دولاراً) للحصول على السكن المطلوب، وحصول موظف على بضعة آلاف تحت الطاولة يعتبر مبلغاً مغرياً لقضاء إجازة في إسبانيا أو اليونان" بحسب أستاذ لغة وناشط مطلع على "أزمة استغلال المهاجرين للسكن".

انفصال صوري
للتأكد من "سمسرة السكن" كانت السيدة منيرة سالم مستعدة لإجراء اتصال هاتفي بسمسار أثناء تواجد "العربي الجديد" للاستماع لما يجري معها. فرغبة أسرتها بالانتقال من شمال شرق السويد، حيث أُسكنت مع عائلة مهاجرة في شقة بمطبخ وحمام مشتركين، دفعها لاتخاذ قرار الانتقال على نفقتها، وتجد نفسها اليوم تنتظر سكناً في ضواحي أوبسالا أو استوكهولم، وتضع عنواناً لدى صديقتها مع أطفالها، فيما زوجها ينام لدى أصدقاء.

صوت السمسار بدا متمرساً، عبر الهاتف، بل ادعى أكثر من مرة أنّه لا يريد لنفسه شيئاً. كان الحوار يدور حول 9 آلاف كرونه (1000 دولار) لشقة من دون عقد إيجار ولفترة محددة بـ 6 أشهر "ريثما تتدبرون أموركم وتسجلون الأبناء في المدارس وتضطر البلدية لمساعدتكم" كما قال. هذه الأسرة جربت "السكن الموقت 4 مرات، من شهر إلى 3 أشهر وقد أرهقنا ذلك بالفعل، خصوصاً أنّ الإيجار تحت الطاولة، بما لا يؤهلنا الحصول على أيّ مساعدة رسمية".




محاولة فهم آلية "السكن الموقت" فتحت أمام "العربي الجديد" مساراً آخر من استغلال قضية السكن لإثراء جيوب البعض. ثلاثة مصادر عربية تتحدث عن "الانفصال الصوري" كمدخل للتربح بالآلاف شهرياً. ويؤكد أبو طارق، المقيم في السويد منذ سنوات، أنّ هناك انتشاراً لهذا النوع من الاستغلال: "فإن أخذت حالة أسرة من زوجين وثلاثة من الأبناء فوق 18 عاماً، فإنّهما إذا انفصلا صورياً، يحصل كلّ شخص منهم على شقته، وهذا يعني أنّ أربع شقق سكنية تؤجّر في سوق سوداء بين المهاجرين، ولك أن تتخيل كم هو دخل هذه الأسرة شهرياً، تربّحاً على حساب مهاجرين آخرين".

أبو طارق، ومعه شخصان آخران من المطلعين، يؤكدون أنّه في حالة هذه الأسرة "تدخلت البلدية بعد معلومة عن الاحتيال الجاري، لكنّ الموظف الرسمي قال لي حرفياً: أعرف أنّ هناك ما هو غير قانوني، لكنّني أتعامل مع الوثائق، وهي تقول إنّ الزوجين منفصلان... وسكن آخرين في الشقق يقولون إنّه ليس تأجيراً لهم بل استضافة لمعارفهم، وفقاً لتقاليدهم، ولا يمكنني فعل الكثير".



من ناحيته، يؤكد أستاذ اللغة للمهاجرين، الفلسطيني، محمد أبو سعدة، لـ"العربي الجديد" أنّ "الصلاحية البيروقراطية المحددة في وظيفة المسؤول السويدي تجعله يتعامل فقط مع ما هو مدون لديه على الورق وليس ما يجري على أرض الواقع". يشرح أبو سعدة أنّه "منذ عامين، يعتبر البعض أسلوب الاحتيال عبارة عن تجارة يتفرغ لها بالكامل". ويعيد سرد قصة تلك الأسرة التي ذكرها أبو طارق، إذ حضر الزوج بداية قبل 5 أعوام ثم جلب الزوجة والأبناء في نظام لمّ الشمل حين كانوا تحت الثامنة عشرة.

ممارسات ضارة
تجربة منال تتجاوز "الانتظار في مخيم لجوء". فقد حصلت هي وأطفالها على حق اللجوء عبر المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين، من خلال نظام الكوتا. ويبدو أنّ تشديد القوانين في السويد، وضعها في ظروف مختلفة منذ مجيئها قبل عام ونصف العام. جرى استقبالها في المطار من موظفين في بلدية من شمال السويد لتجد نفسها على عكس من أحضرتهم الأمم المتحدة في وضع سيئ: "بالرغم من معاناة ابنتي الصحية وضعونا في سكن موقت ومشترك". اضطرت منال لخوض تجربة الآخرين بحثاً عن سكن في مدينة كبيرة: "أردنا الانتقال إلى منطقة أوبسالا... حصلت على رقم أحدهم من صديقة لي في مدرسة اللغة، على أساس أنّه فاعل خير سيساعدنا في ايجاد سكن قرب المدينة. وبدأ يساوم بأنّه للحصول على المنزل سيضطر للدفع للشخص الحاصل عليه ليتنازل عنه لمصلحتنا، ولا أعرف كيف يجري ذلك بل أكد أنّه قانوني، طلب 20 ألف كرونه (2235 دولاراً)، صعقت وقلت ليس لدينا هذا المبلغ، نحن مجرد مهاجرين كلّ ما يتبقى لنا 2700 كرونه (392 دولاراً) شهرياً لنستطيع العيش بها لبقية الشهر بعد دفع الفواتير، لكنّنا ما زلنا نتفاوض علّه يخفّض المبلغ وننتظر الآن في شقة موقتة مع صديقتي".

تتحدث سيدة سورية، رفضت ذكر اسمها، عن "آثار نفسية كبيرة وصدمة من الاستغلال الذي يصل في بعض الأحيان إلى 40 ألف كرونه (4470 دولاراً) للحصول على شقة بشكل رسمي من خلال الدفع برقم الانتظار إلى المقدمة، لا أعرف كيف يؤمّن الناس هذه المبالغ، لكنني اكتشفت أنّ البعض يضطر للانفصال على الورق ليصبح لديهم مال لإيجاد سكن، وهو ما أرفضه وزوجي تماماً".

يؤكد الناشط السوري في صفوف المهاجرين الجدد عبد الله عوني لـ"العربي الجديد" في استوكهولم حقيقة مبالغ السمسرة: "هي معروفة بمراوحتها بين 40 ألفاً و70 ألف كرونه، بحسب المنطقة، ويقوم الأمر على تلاعب موظفين بنظام الدور على كومبيوتر شركات السكن، بعضه كشف، وألغيت العقود، وخسر الناس أموالاً، وبعضه ما زال مستمراً، في سوق سوداء تزدهر للأسف بازدهار الانفصال الصوري أيضاً للتربح المالي". وبالرغم من أنّ "سوق السمسرة" كما يطلق عليه السوريون في السويد، يعود أصلاً بالضرر على مهاجرين منهكين وضعفاء، فإنّ محاولات "العربي الجديد" الحصول على أجوبة من بعض شركات السكن حول آليات محاربة الظاهرة لم تؤدِّ إلى نتيجة.




يعلق أبو طارق أنّه "ليس من مصلحة شركات السكن أن تعترف بوجود فساد في بلد يحارب الفساد أصلاً، ومن المؤسف أن نضطر للقول إنّنا أمام كارثة نقل الفساد من الدول الأصلية إلى دولة كالسويد، هذا عدا عن فساد الانتخابات، وتلك قصة أخرى لمحاربة مرشحين معنيين". يأمل أبو طارق، الناشط في الحقل الاجتماعي بضواحي أوبسالا، أن يجري تصحيح الوضع "لما يشكله من سلبيات مدمرة على مستقبلنا في هذا البلد، ويشد من أزر اليمين المتشدد الذي يسوق خطابه على سؤال شعبوي للجمهور السويدي: هل كان بلدنا هكذا قبل تدفق المهاجرين؟ خصوصاً مع تسرب بعض الممارسات السلبية المخالفة للقوانين إلى الصحافة".

يتفق المهاجرون، من أصحاب التجارب مع "السمسرة" مع ما يذكره الناشط عبد الله عوني في أنّ الحل "يبدو صعباً إن لم يحاربها الناس بأنفسهم برفض دفع الأموال، وإلاّ فسنكون أمام تشديد في القوانين يطاول مستقبلاً الجميع، ما سيعني دفع الثمن بسبب سلبيات لا يشارك فيها أغلبنا". ويعتبر كثيرون أيضاً، ممن تحدثوا إلى "العربي الجديد" في أوبسالا واستوكهولم، أنّ "السلطات السويدية تتحمل مسؤولية أيضاً بدل ترك الأمر يستشري ليدفع مجتمع الهجرة أثمانه مثلما تدفع مناطق كاملة من سمعتها بسبب تفشي الجريمة والمخدرات وسلبيات أخرى تؤثر على النشء وعلى مستقبلنا في البلاد".
المساهمون