قبل 12 عاماً فقط اكتشفت اللبنانيّة سوزان الدويهي صدفة حبّها للطبخ، وقد أتقنت صنع "الكبة الزغرتاوية" بعدما علّمت نفسها بنفسها، وأطلقت مطبخها.
تلفّ سوزان الدويهي شعرها بـ "الفيليه" الأسود، وتربط المئزر الأحمر حول خصرها، وتلبس كفّين أزرقين ثم ترسم ابتسامة عريضة على وجهها. هذه هي البدلة الرسميّة لملكة الكبّة حين تكون في مملكتها، أي في مطبخها، أو في السوق مع زبائنها.
من الصعب على من تلذّذ بطبخات سوزان أن يصدّق أنها بدأت الطبخ منذ 12 عاماً فقط. قبل ذلك، كانت مهاراتها تقتصر على الوجبات سهلة التحضير، أو على أي شيء يكفي عائلتها الصغيرة. لكنّها عندما سمعت من قريبتها أنّ المسؤول عن أحد الأسواق في بيروت يبحث عمّن يعرض منتجات وطبخات زغرتاويّة، قررت سوزان، ابنة زغرتا (شمال لبنان)، أن تحضّر أوّل "صينيّة كبّة" في حياتها.
لجأت سوزان إلى جارتها، وهي امرأة كبيرة في السن، وطلبت منها تعليمها كيفيّة تحضير الكبّة، غير أنها تفاجأت بأن جارتها لا تملك وصفة محدّدة للطبخة. "النساء الكبيرات في السنّ يطبخن من دون تحديد الكميّات. فبحكم الخبرة الطويلة التي يتمتعن بها، يمكن لهنّ تحديد المقادير من خلال التذوّق أو اللون أو الرائحة حتى"، تقول سوزان التي عرفت عندئذ أنها سوف تعلّم نفسها بنفسها.
أحبّ الناس أوّل صينيّة كبّة فكانت الثانية ثم الثالثة. من بعدها، أصبحت سوزان أكثر جرأة وإبداعاً، وراحت تخترع أصنافاً جديدة من الكبة، فكانت الكبّة "القاطعة" أي من دون لحم، والكبّة المحشوّة بالخضار وغيرها. إلى جانب الكبّة التي تشتهر بها زغرتا، قررت سوزان أن تعرّف اللبنانيّين على المجدّرة باللوبية، وهي أيضاً "تخصّص زغرتاوي". تقول: "في البدء، لم يرغب أحد في شرائها أو تذوّقها حتى. فصرت أهدي الزبائن علبة صغيرة من المجدّرة باللوبية أضعها في كيس مشترياتهم. وأوصيهم أن يأكلوا المجدّرة مع حبّة من الفجل أو مع البصل، وأن يعودوا ويعطوني رأيهم بها".
تسوّي صينيّة الكبّة (أنطوني الحايك) |
وبالفعل، كان الزبائن يعودون ليشتروا علبة أكبر من المجدّرة ويطلبون من سوزان تحضيرها باستمرار. ولا تكتفي سوزان ببيع منتجاتها فحسب، بل ترى أنّ تبادل المأكولات الشهيّة وتلذّذ الزبون بها إنّما يشكّل رابطاً قويّاً بين الطبّاخ والمتذوّق. "كوّنت صداقات عدة من خلال مهنتي، وساهمت في تعريف الناس على أحد أوجه ثقافة زغرتا وإهدن، لأن الأكل هو شكل من أشكال الثقافة والهوية"، تقول سوزان التي تساهم أيضاً في نشر قيمة تميّز منطقتها، وهي الكرم.
"لا أرضى أن أبيع زبوناً منتجاً لم يشتريه من قبل، من دون أن أخصّص له حصّة أهديه إيّاها ليتذوّقها أمامي، ولكي أراه وأرصد تعابير وجهه إذا ما تلذّذ بها أمامي"، تروي سوزان التي لا تبخل أبداً على زبائنها الجدد أو القدامى. "يتفاجأ الجدد عندما أقدّم لهم قطعة كبيرة من الكبّة لتذوّقها، أو علبة من الطعام هديّة". تحب سوزان الناس، وتحب الاختلاط بهم والتعرّف عليهم، وأن تعرّفهم على منطقتها من خلال مطبخها الذي يحمل اسم "مطبخ زغرتا - إهدن".
ملكة الكبّة في تسجيل مباشر (أنطوني الحايك) |
"لا أتحرّك من مكاني من دون جرن الكبّة الذي يرافقني دائماً"، تقول سوزان التي نقلت جرن الكبّة التقليدي من زغرتا إلى سائر المناطق اللبنانيّة. فصانعة الكبّة شاركت في معارض كثيرة، وأسواق عدة ومناسبات في لبنان وفي الخارج أيضاً. من عاليه وبحمدون (محافظة جبل لبنان) وصيدا (جنوب لبنان) إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا، لفّت سوزان لبنان ثم بعض دول العالم قبل أن تعود وتستقرّ في مسقط رأسها في زغرتا. من مطبخها في بيتها في زغرتا، تحضّر سوزان الأكل للمعارض والاحتفالات الخاصة بطناجر ضخمة ونفس طويل. "المحشي ورق عنب أو ورق عريش"، يُطبخ على النار لما لا يقلّ عن السبع ساعات"، تشرح سوزان التي تقرّ أنها اكتشفت حبّها للطبخ متأخّرة، لكنّ النفس والشغف موجودان عندها ويمكن أيضاً لزائر مطبخها أن يشعر أنّ هذه المساحة هي مساحتها الخاصة والحميمة. فمطبخها لا ينقصه لا كنبة للاسترخاء، ولا طاولة تتسّع لعدد من الأشخاص ولا ديكوراً اختارته سوزان بعناية.
من مطبخها هذا، تخرج سوزان إلى العالم. ترافق "سوق الأكل" في كافّة مشاويره إلى المناطق اللبنانيّة كما في موعده المعتاد في أسواق بيروت في الوسط التجاري. لكنها قرّرت الاستفادة من عطلة طويلة في شهر يناير/ كانون الثاني، بعد صيف كان حافلاً وموسم أعياد كانت فيه عطلة نهاية الأسبوع شاقّة لسوزان وفريق عملها من النساء اللواتي يساعدنها في لفّ ورق العنب أو غيرها من المهام التي يمكن أن تحيلها إلى أشخاص آخرين. "لكنّ الحشوة، وتطبيق الطبخة، وطهيها، والإشراف عليها، وكل ما يرافق ذلك، أقوم به بنفسي وبيديّ هاتين"، تقول سوزان رافعة أصابعها العشرة.