لم يكن يخطر ببال عشرات آلاف السوريين أن ينتهي بهم المطاف، مشردين ولاجئين في مدينة غازي عينتاب جنوب تركيا، يتحسرون على بلادهم التي باتت نهباً للمطامع الإقليمية والدولية، وتكاد تختفي عن الخريطة، ويسألون أنفسهم بوجع ما سأله الفلسطينيون قبل سبعين عاماً: هل سنرجع يوما؟
تلاشى حلم العودة إلى سورية لدى الكثيرين؛ البلاد تشظّت، والحرب لم تستر ساقها بعد، بل مرشحة لمزيد من الاستعار، حيث اتخذ المتصارعون من الجغرافيا السورية ميدان احتراب، وساحة تصفية حسابات قديمة وأخرى جديدة. نزاعات تغذي نزاعات، والصراع لم ينته بعد في سورية وعليها. دم يستسقي دما، ورحى الموت دائرة، تحصد كل يوم أرواح البسطاء الذين حلموا ذات يوم ليس ببعيد بالحرية، فتجرعوا مرارات الأسى، وخذلان القريب والبعيد.
يقطن في مدينة غازي عينتاب التركية عشرات آلاف السوريين الذين اضطروا للخروج من منازلهم ولجؤوا إلى هذه المدينة بسبب القرب الجغرافي، خاصة من مدينة حلب وريفها الواسع، بسبب الحرب المفتوحة التي يشنها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون، على السوريين منذ أكثر من سبع سنوات.
وتقدّر السلطات التركية عدد السوريين في غازي عينتاب بنحو 325 ألفاً، لا يزال الأتراك يعتبرونهم "ضيوفاً"، في حين تؤكد أرقام غير رسمية أن العدد يربو على 500 ألف سوري، حيث دخل المدينة آلاف هم غير مسجلين لدى الحكومة التركية، ما يعني أن السوريين باتوا يشكلون نحو 30 في المائة من عدد سكان المدينة التي تضم نحو مليون و800 ما بين تركي وسوري.
يتوزع السوريون في أحياء مدينة عينتاب المتعددة، ولكن هناك أحياء اكتظت بالسوريين أكثر من غيرها، خاصة حي كراطاش (الحجر الأسود باللغة التركية)، وبين أفلر (ألف مسكن باللغة التركية)، وحي الجامعة، وهي أحياء إلى جانب أخرى تضم الطبقة المتوسطة من السوريين، حيث يصل إيجار المنزل إلى نحو ألف ليرة تركية (ما يعادل 250 دولاراً أميركياً). واختار أصحاب الدخل المحدود منطقة "دوز تبه" مكاناً للسكنى، حيث من الممكن إيجاد منزل بإيجار منخفض، فيما يسكن أصحاب الدخل المرتفع في عدة أحياء منها: كاوا كليك، وحي الإبراهيملي.
طبع السوريون مدينة غازي عينتاب بطابعهم، حتى تكاد تكون "حلب ثانية" في جنوب تركيا، حيث ظهرت المطاعم السورية، ومحلات "الحلويات" بكثرة في المدينة، وتحول سوق غازي عينتاب المركزي، الذي يطلق عليه السوريون اسم "السوق الإيراني"، إلى سوق سوري بامتياز، حيث استأجر أصحاب المصالح أغلب محلاته، حتى بات وكأنه أحد أسواق مدينة حلب التي ارتبطت تاريخيا بعلاقات مميزة مع غازي عينتاب.
خلال سنوات الثورة السورية، تحولت مدينة غازي عينتاب إلى مستقر لمؤسسات المعارضة المختلفة، ومقر أغلب المنظمات التي تقدم عونا للسوريين في تركيا وفي المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام في سورية، خاصة في الشمال، ومنظمات واتحادات سورية تعمل في الشأن الإغاثي والتعليمي والصحة. كما افتتحت في المدينة العديد من المواقع الإخبارية والصحف، حيث كانت المدينة قبلة للصحافيين والناشطين الإعلاميين، قبل أن تفقد أهميتها على هذا الصعيد لصالح مدينة إسطنبول، بدءاً من عام 2016، مع هجرة الكثير من الكفاءات السورية إلى بلدان أوروبية.
لا يوجد سوري لا يعمل في مدينة غازي عينتاب، فهي من المدن التركية "الغالية" في المعيشة، حيث باتت تضاهي مدينة إسطنبول على هذا الصعيد. يعمل السوريون في كل المجالات والمهن، ونهضوا باقتصاد المدينة على كل الصعد، حتى بات يصعب تصوّر مدينة غازي عينتاب من دون السوريين. ودخل رجال أعمال سوريون سوق الصناعة في المدينة، وانتشرت المصانع في المدينة الصناعية الكبرى بالمدينة، حيث تقوم الحكومة التركية بتقديم كل التسهيلات التي جذبت رؤوس الأموال السورية المهاجرة.
بات أغلب الأطفال السوريين في مدينة غازي عينتاب يتقنون اللغة التركية التي تضم مئات المفردات العربية، وهو ما يسهّل عملية تعلمها، كما لجأ الكثير من السوريين إلى تعلّم اللغة التركية، في إقرار واضح على أن عودتهم إلى بلادهم في المدى المنظور غير ممكنة، أو باتت حلما ربما لا يتحقق.