سورية وقد عُلّقت على خشبة

08 سبتمبر 2015
لوحة للفنانة السعودية فاطمة النمر
+ الخط -
أصحيح أن القادة سيجتمعون من أجل إيجاد حلّ للناس؟ أصحيح أن الأوروبيين سيجدون حلاًّ من أجل "اللاجئين"؟. تشير أسئلة في صيغة مماثلة إلى نوع بعينه من التهجير الذي يتعرّض له السوريون؛ التهجير خارج سورية وصوب أوروبا. ورغم أنه ليس النوع الوحيد من التهجير السوري، إلا أنه كان الأكثر "حظّاً" على ما يبدو، في جعل السياسيين يفكّرون مرتين لا مرة واحدة، كما في كل مرة.
فكّر السياسيون مرتين بسبب صورة الطفل السوري، عيلان عبد الله، مُسجّىً على شاطئ البحر، ثم عادوا إلى مهنتهم الأثيرة : إطلاق التصريحات وفقًا لمصالحهم وموقعهم في رقعة الشطرنج العالمية، وسعدوا بوصفهم "لاعبين إقليميين"، إذ من شأن وصف مماثل تسهيل تمرير وصف آخر : حرب أهلية أو إرهاب، كما من شأنه الترفّع عن المساعدة بوسائل شتّى، فأن تكون لاعبًا إقليميًا يعني أن المسؤولية ليست عليك وحدك. هكذا يبرّر السياسيون بجنسياتهم المختلفة، لكن وفقًا للعبهم الإقليمي، هروب السوريين برّاً وبحرًا صوب أوروبا.
وفي غمرة تبادل الاتهامات عمّا يجب عمله، وما لا يجب عمله قياسًا إلى النتائج، ما كان ممكنًا البتة السؤال عن أنواع أخرى من التهجير السوري ولا عن أسبابها بالطبع. إذ ثمة أيضًا التهجير الداخلي البراميلي، والتهجير الداخلي التعذيبي، والتهجير الداخلي التدميري، والتهجير الداخلي الداعشي، فضلًا عن النزف السوري الذي "ظهر" في مخيمات الدول المجاورة لسورية. كل نوع من التهجير أدّى إلى إفراغ مناطق برّمتها من السوريين. قرى ومدن صارت أثرًا بعد عين. لكن، يبدو أنه لم يكن من عين ترى، قبل صورة الطفل عيلان.

اقرأ أيضاً: مصطلح اقتصادي للسوريين

لكلّ أنواع التهجير السوري سبب واحدٌ وحيد يعرفه جميع أعضاء نادي "اللعب الإقليمي"، لكن، لا أحد منهم يرغب حقًا في الإشارة إليه. يغضون الطرف عنه، إذ إن إشارة مماثلة لن تكون هذه المرّة كما في السابق "اجتهاداً لغويّاً" أمام وسائل الإعلام فحسب نتيجةً لصور أخرى وبثٍّ مباشر لقصف وقتل وتهديم وتعذيب وتهجير، لم تحرك أيٌّ منها شيئًا، وكذلك الأرقام المفزعة لعدد السوريين القتلى والمنزَّحين والمعذبين والمهجَّرين. الإشارة المماثلة في حسابات اليوم، أي بعد خمس سنوات تقريبًا من المأساة السورية، أضحت عالية التكلفة.
وكان ينقص المشهد القيامي تغريدة رجل الأعمال ساويرس، بشراء جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، لوضع اللاجئين السوريين"البحريين" فيها، كذا تكتمل عناصر المشهد القيامي الذي لا نهاية له في الأفق على ما يبدو. جزيرة إغريقية لتناسب التراجيديا السورية. لكأن السوريين محض أرقام في حسابات الجميع، إذ لا ريب في أن رجل الأعمال "الشاطر" فكّر ربّما مرّات عدة بتكلفة أمرٍ مماثل فهو رجل أموال أولًا وأخيرًا؛ سعر الجزيرة، وعدد اللاجئين، وماذا سيعملون هناك. أو لعلّ الفكرة هبطت إليه، فأعجبته بلاغتها ورأى أنها تناسب السلوك الجديد : الهرع صوب وسائل التواصل الاجتماعي. هرع رجل الأعمال إلى تويتر ليعلن تغريدته على الملأ، ومثلما فكّر بتكلفة الجزيرة، فكّر كذلك بعدد التغريدات المصاحبة لتغريدته. عدد التغريدات يعني أنه "الشاطر" وسيكون الأوّل في الـ Trafic والـ Trends على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا جيد، فكلّما زاد الرقم وارتفع، زادت حظوظ التغريدة في أن تكون مادّة في وسائل الإعلام. الأمر غير مكلف البتة، تغريدة واحدة من رجل الأعمال، ربّما يرغب هو بدوره في أن ينتسب إلى النادي؛ نادي اللعب الإقليمي. فلو كان جادًا في "المساعدة" أو في تقديم عون أو حلّ من أي نوع، لما هرع إلى التغريد أصلًا.
تهجيرٌ سوري بأنواع لا تحصى، وفي مكان المهجّرين والمنزّحين والمهرّبين، يستعد "مهاجرون" غير سوريين للذهاب والسكنى. للذهاب إليها، إلى تلك البلاد الصغيرة الممزقة والمدمّرة والنازفة منذ خمس سنوات. لعلّها مع صورة الطفل عيلان الذي لفظه البحر على الشاطئ، لُفظت هي بدورها، وصعدت من بحر دمائها لبرهة، ففوجئت، إذ وجدت نفسها الأولى في الـ Trafic والـ Trends، على مواقع التواصل الاجتماعي، والأولى في وسائل الإعلام، والأولى في تصريحات القادة وأعضاء نادي اللعب الإقليمي. الأولى لدى الجميع، كل الجميع، أي وفقًا للتعبير اللبناني الجديد "كلّن يعني كلّن".
فوجئت لبرهة فحسب، فقد خبرت هذا العالم الذي أدار ظهره لأبنائها القتلى، وأبنائها المعذّبين، وأبنائها المنزّحين، وأبنائها المهجّرين، وأبنائها المهرَّبين. هي الأولى لبرهة قد تسفر عن أمل وقد لا تسفر عن أي شيء. هي سورية وقد عُلِّقت على خشبة.
المساهمون