سورية: مسوّدة الإلحاد

13 نوفمبر 2016
فلاديمير كوش / روسيا
+ الخط -

في بلدٍ كسورية، تبدو الحرب التي تدور فيها بلا نهاية، تكثر الهوامش التي ينتمي إليها الشباب كضرورة لجعل الانتماء اليومي ممكنًا، كضرورة ملحّة لتكوين الشخصية، وتحقيق الفرادة، ومن ثم تشكيل الجماعة الاجتماعية، لمحاولة تأسيس قيمة مشتركة.  ذلك بعيداً عن أي محاولة للانتماء إلى تيار سياسي، أو حتى التفكير في السياسة بوصفها طريقة لتحصين هوية وتفعيل الفردية والاختلاف والرغبة وصناعة المستقبل.

فالمناطق البعيدة عن صلب الحرب، يعيش الشباب فيها بـ "أمانٍ" ما، مرهون بابتعادهم عن السياسة، يمارسون الحياة شبه الاعتيادية؛ شريطة قمعهم الذاتي لنفسهم، أو من خلال استطاعتهم تكوين جمعيات ترفيهية، ونشاطات ثقافية محدودة الأثر ليتمكنوا من التجمع والعمل ضمن جماعة.

في هذا الهامش، تنتشر اليوم لدى الشباب السوري نافذة واسعة للانعزال عن الأطواق السياسية والاجتماعية الدينية الرائجة لتكوين "شبه جماعات حيادية"، ناقدة للدين ولا تُزعج النظام؛ أكثرها، في سورية اليوم، شبكات الإلحاد التي بدأت أدبياتها بالانتشار عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. صفحات تبنت عنوان الإلحاد، واستطاعت اجتذاب ألاف الشبان لمتابعتها، ومهاجمتها أيضاً.

الملاحظة المباشرة للصفحات تُوضح عدم وجود منهجية علمية منظمة في معاينة الشأن الإلحادي. تكتفي الصفحات بإطلاق النكات والصور المستهزئة بالشخصيات المتدينة والدينية، أو تأمين حجم هائل من الاقتباسات النصية من كتب دينية، وفتح باب الدعابة عليها، أو الترويج لُكتب علمية بحثية تنتقد مسائل الدين الرائجة من منطلق علمي، إلا أن الاختيارات لا تكون حذرة؛ فالاقتباس من سيد القمني، مثلاً، لا يعكس ثقافة الإلحاد، بل المنطق التاريخي والعلمي في فهم الظاهرة الدينية.

هنا، يظهر التناقض في هوية المعرفة التي يتبنونها. فما بين الرؤية العقلانية المادية للدين، والثقافة الإلحادية، هوة واسعة لا ينتبه إليها المعنيون بالصفحات ولا حتى المُتابعون.

تدور رحى العمل في الصفحات الإلحادية على مهاجمة الدين فقط، وجعل الاستهزاء أحد الأشكال المتبعة لنشر المعرفة، عبر تسطيح الأفكار الدينية بدعابات تقوم على جُمل وأفكار مسطحة وهجومية فارغة المضمون. لا ينتمي هذا لباع الملحدين في العالم، الذين ينتمون لثقافة علمية رفيعة، فيها من حجم الاستقراء العلمي والافتراضات المعرفية ما لا يُمكن لمجتمعاتنا الفقيرة علمياً وتقنياً فهمه واستيعابه.

ورغم اللجوء لمقولات شخصيات إلحادية، مثل ريتشارد ديكينز، إلا أن هذا لا يُشكل قيمًا معرفية ولا تنظيمية؛ بل يُشكّل ما يُمكن أن يكون رائجًا، كإشكالٍ في السؤال، وقد يستطيع أي مؤمن الإجابة عنه، فحتى المقولات المُستخدمة لا ترفع مستوى الشك.

حاولت شبكتان إلحاديتان التحوّل في العمل من الإشهار الإعلامي عبر الصفحات الاجتماعية، إلى العمل اليومي والمنظم، من خلال تحضير اجتماعات أسبوعية، ولقاءات شهرية. تسنّى لنا حضور اجتماعين ولقاءً دوريًا جمع ممثلين لغالب المحافظات السورية.

ينحو على الاجتماع الطابع الاجتماعي، يتم تبادل الأحاديث العادية واليومية، ولا يتحدث أحد في السياسة. الجانب الجيد هو تبادل الكُتب بين المجموعات، ومحاولة تأسيس مكتبة علمية غالب الكتب فيها لنقد الدين. أشارت إحدى الحاضرات، (21 عامًا، تدرس الآداب الأجنبية) إلى أن هدف اللقاءات هو محاولة تأسيس جماعة، تحاول النهوض بالمجتمع عبر الإلحاد، وعبر نقد التفكير الديني كاملًا، الذي هو أساس التخلف الاجتماعي، موضّحةً أن المكتبة تهدف إلى دفع الشباب للقراءة لتحقيق الوعي.

حاضرٌ آخر (24 عامًا)، يقول إن "الدين أصل العلة، هو من يقود التخلف الذي نعيشه ولا حل إلا بالإلحاد والاتكال على العقل، بل حتى الطائفية سببها الانتماء للفرق الدينية، وهذا ما يجعل الإلحاد حلًا، فهو يقود نحو المواطنة والمساواة في الحق".

وحين سألنا عن الاستهزاء بالمتدينيّن، واجهنا ردًّا مشتركًا، يقول إن صفحات الإلحاد تتكل على العلاج بالصدمة، ذلك لتحقيق الشك بعقل المتدين بشكلٍ مباشر.

من خلال الملاحظة أيضًا، يظهر وجود حماس كبير لدى الشباب المُلحد لجعل عدد المُنتمين أكبر، ونقل النشطاء عبر فيسبوك إلى حيز الاجتماعات التي لا تبدو ممنهجة، ولا يسعى القائمون لوضع كيان تنظيمي، وقواعد عامة للانتساب مثلاً؛ بل تبقى حدود الانضمام عبارة عن لقاء وحوار مفتوح، وتبادل للأفكار بشكل مبسط.

كان علينا أن نواجه الشباب ببعض المقولات والأفكار الأخرى، كمقولة كانط: "ليس من الفطنة القضاء على الدين الشعبي والإيمان البسيط العادي لأنه يمكن أن ينبثق من ذلك إلحاد أشد خطرًا على الدولة".

وكذلك لفتهم إلى أفكار شوبنهاور الثابتة عن دين الفرد الخاص، والدين البسيط وأهميتهما، لكن الرد جاء قاسياً؛ حيث هناك ميل واسع للقطيعة التامة مع الدين، باعتباره سببًا لما تمر به سورية اليوم.

من الملاحظ أيضًا، ألا تفرقة منهجية بين العلمانية التي قد تبدو إلحادية كمؤسسات تتبع الدولة، وبين دين الفرد الخاص، ومعتقداته وأساطيره التي لا يحق لأحد الاعتداء عليها طالما لا يحاول فرضها على الآخرين.

وتبدو الإزاحة عن الشأن السياسي قرارًا لدى أفراد شبكة الإلحاد؛ فهم يعتبرون أنفسهم حركة اجتماعية، تبتعد عن السياسة، درئًا لأخطارها. هذه الإزاحة مُكلفة لمصداقية الحركة الإلحادية، فأكثر من يقف في وجه الثقافة العلمية وعلمنة الدولة ومؤسساتها هي أنظمة الحكم ذاتها التي تبتعد الحركة الإلحادية عن نقدها، وهي ذاتها، أي الأنظمة، من تمنع العمل في السياسة، والعمل الاجتماعي لمحاولة علمنة المجتمع أو نشر قيم الحداثة، أو حتى تعليم النقد الديني والرؤية التاريخية الأنثروبولوجية له.

يدور الإلحاد وناشطوه في فلك مهاجمة أفكار المجتمع الدينية من دون رحمة، مع غياب طرح قيمة أخلاقية بديلة؛ فالمعلوم أن أزمة العلمانية مثلاً، لا تملك قواعد أخلاقية ثابتة، يُمكن الرجوع إليها لكي لا تتحول إلى حركة مفتوحة لا تملك ضوابط رصينة، لجعل الأقراد منضبطين دون إيذاء النفس. وأيضاً لا يطرح نشاط الشباب المُلحد مثالًا أو أنموذجًا للتغيير الاجتماعي أو السياسي. هذا بدوره يخفف من قيمة الحركة واستمراريتها. الاكتفاء بمهاجمة الدين ضعف، ذلك لعدم إقامة بديل علمي حي ومستمر، يسحب من الدين تفسيراته للعالم.


(سورية)

دلالات
المساهمون