سورية.. كوكبٌ لوحدها

16 ابريل 2015
سورية أنسب مكان لفهم العالم، سورية مستقبل العالم (Getty)
+ الخط -

وأنا أتصفّحُ بريدي الإلكتروني، دون إغفال تصفح صفحتي الزرقاء "الفيسبوكية"، بما يحمل الموضعان من دعوات للانضمام لإحدى حملات المناصرة الكثيرة والمتعددة لأجل التضامن مع سورية والسوريين، ومأساة الشعب التي طالت، ولاجئيه في مختلف أنحاء الإقليم، بل والكوكب، استوقفني هنا وجذب انتباهي اسم إحدى الحملات "كوكب سوريا"، فالعنوان صادم ومحمّل برمزية فظيعة وقاسية في الوقت ذاته، فأن يكون بلدك كوكب بحد ذاته، هذا ما يُدخلكَ في جملةٍ من التساؤلات الوجودية والعبث الفكري المُتعِب.

أما الناشطون السوريّون الذين روَّجوا وسوَّقوا لهذه الحملة، فلا بد أن ما تولّد لديهم من إحساس مرير على مدار اختبارهم في الامتحان السوري الكبير، الذي يصب على رؤوس السوريين منذ أربعة أعوام، هو إحساس مفاده أنّ العالم يعامل بلدهم وكأنّه من كوكب آخر، ولا ينتمي لكوكب الأرض، أو حتى أن بلدهم كوكب قائم بذاته في مجارٍ بعيدة لا تربط الأرض به أدنى روابط المغناطيسية، ولذا أرادوا من خلال هذه الحملة والاسم المُنتقى لها أن يوصلوا رسالة مفادها "بأن الحقوق التي نطالب بها هي تلك التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان في أي مكان على وجه الأرض، كما أننا نتضامن مع كل إنسان يناضل من أجل حقوقه حول هذا الكوكب، لكن مطالبنا نحن في الحرية والديمقراطية قوبلت من قبل الكثيرين كأنها مطالب غريبة أو غير مألوفة إطلاقاً!".

إضافة إلى كل ما يمكن أن يحيل إليه الموقف السابق من أفكار ومخاييل، كانت هذه الحملة احتجاجاً ضمنياً ضد الصمت العالمي المتواصل تجاه بلد يعاني من كلِّ الشرور مجتمعة، بدءاً من الإجرام الأسدي اللامحدود، والذي من السذاجة اعتباره طارئاً، أو مستجداً على حياة السوريين، بل هو وليد تراكم قمع وصمت وتفاعلهما المتآمر على الشعب طيلة عقود أربعة أوصد البعث ومخابراته الأبواب جميعها على كل سنتيمتر مكعب من الأوكسجين في سورية، والذي تميّز بعنجهيةٍ واستكبارٍ لم يشهد العالم مثيلاً لهما إلّا أيام العهد "الهتلري" و"هولوكوساته" المتعددة بحق شعوب وأعراق عدة وكل من عارضه حتى لو كان من العرق الذي نادى بسموّه وأولويته في الوجودة والسيادة، وكل الجرائم النازية ما كانت لدى أدولف هتلر إلا تعبيراً عن مفخرة كان يختال على إيقاعها الدموي مرعباً البشرية حينها ومزعجاً ذاكرتها إلى هذا الحين، وصولاً إلى النسخة الأحدث والأكثر تطوراً من الإرهاب القاعدي الأصولي الهمجي والطائفي العنصري، أي ما يعرف بـ"تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش"، الذي كان الإجرام الأسدي سبباً في تعزّزه وانتشاره في أجزاء واسعة من التراب

السوري، بل وحتى تغذيته وتشجيعه وفتح الدروب سالكة أمامه، حتى وصل إلى مدخل العاصمة دمشق من بوابة مخيم اليرموك الذي خَبِر صنوفاً عدة من صنوف العذاب، ومن بينها "التمويت جويعاً"، الذي يبدو في ظاهره نمطاً كلاسيكياً للعقاب والانتقام، لكنّه من أشد الفواحش التي ارتكبها الأسد بحق الفلسطينيين والسوريين على حدٍ سواء. ففي اليرموك تتلخّص المعاناة وتتضح "خيوط اللعبة" المحاكة حول أعناق السوريين والفلسطينيين من طرف إرهاب النظام والدواعش.

ويتضح أن النزوع إلى ما يمكن تسميه بـ"الكونيّة السوريّة"، أو "التكوكب السوري"، جاء هنا ليعبّر عن يأس السورييّن من اللامبالاة التي أبداها ويبديها العالم تجاههم، والتي وصلت حدودها القصوى، فالعالم بات ينظرُ لسورية على أنّها بلد موبوء بالحروب ويسري فيها الإرهاب والتطرّف مسرى الدم في العروق، وأن الابتعاد عنها وتركها وشانها هو أسلم الحلول، في نظرهم، بل وأنجعها من ناحية عدم تحمّل أي أكلاف تذكر. ومن ليس له تأثير مباشر على مجريات الأمور والمصائر في الأرض السوريّة، فهو إما أغلق حدوده تجاه أفواج البشر الهاربين من جحيم الحرب هناك، أو ضاق ذرعاً بالواصلين كلّ يوم إلى أرضه والذين يطالبون بحقوقهم الإنسانيّة بالحماية وتأمين المسكن وما إلى هنالك من احتياجات متعددة تكفلها القوانين المحلية في بلدان الملجأ الأوروبي، والتي تنص عليها جميع الشرائع الدولية المتعلقة بموضوع حماية المدنيين وقت الحروب والنزاعات، وتحتّم على أصحاب القرار في الدول احترامها. لكنّ هذه الدول استطاعت، هي وغيرها، الالتفاف على حقوق طالبي اللجوء، فهذه الحقوق والامتيازات لا تُمنح إلاّ للواصلين إلى أراضيها بالطرق غير الشرعية (التهريب براً وبحراً وجواً)، وهذا ما لا يتأتى إلاّ لفئات قليلة من السوريين الذين يمتلكون المال والقدرة على خوض هذه الرحلة المليئة بالمخاطر والأهوال. وبطبيعة الحال لا مناص قانوني أو "شرعي" للدخول" إلى نعيم تلك الدول إلا بموافقة مسبقة وتأشيرة تصدر من سفاراتها في أحد البلدان، وهذا ما تتجنبه الدول، أي منح التأشيرات للسوريين. وهذا أيضاً ما حدا بصديقتنا الفلسطينية السوريّة إلى أن تقول ذات مرة بسخرية مؤلمة: "يجب علينا نحنُ السوريّون أن نأخذ جزيرة لوحدنا، كي يرتاح العالم من همومنا ومصائبنا".

من ناحية أخرى، وبعد دخول الثورة السوريّة عامها الخامس، تلك الثورة التي تحوّلت بفعل عوامل عدة وحيثيات جيوسياسية معقدّة إلى "حرب كونيّة مصغرة" تشارك فيها الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة، إنْ بشكل مباشر أو عن طريق وكلاء محليين يتلقون الدعم العسكري والمالي بمستويات مختلفة وغير متكافئة، صارت سورية بكل ما حصل فيها من حروب ومصائب وأزمات إنسانية هي الأكثر خطورة وتعقيداً في السنوات الأخيرة، صارت وكأنّها "بروفا" لشكل العالم ومستقبله القادم، كما عبّر الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، عندما كتب منشوراً على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، يقول فيه: "سورية أنسب مكان لفهم العالم، سورية مستقبل العالم".

ولذا، فإنّ الفكرة القائلة بالعولمة السورية أو الكونية الخاصة بها، قد تبدو غير مقبولة في نظر البعض أو شطحة من الشطحات التي طرحها أناس مظلومون شعروا بالغبن والظلم الذي حاق بهم نتيجة لنكران حقوقهم في العيش بوطن حرٍّ كريم يتم التفاضل بين أبنائه بالالتزام بالواجبات والحقوق لا وفقاً للمذهب والمعتقد والإثنية التي ينتمي إليها، ويسري فيه القانون على المسؤول قبل المواطن العادي.

الكونيّة السوريّة والرغبة المجازية في العيش على كوكب منفصل بعيداً عن كوكب الأرض وأهله، الذين أغفلوا حقوق السوريين، ولّدتها "مظلومية سوريّة" ناشئة باتت تنتشُر بشكل كبير عند السوريين أخيراً، وهي حلمٌ مضاف إلى قائمة الأحلام التي رغب أبناء سورية في إحالتها إلى واقع معاش، لكنّها بقيت إلى حد الآن رغباتٍ وأمانٍ تُرتجى.

(سورية)

المساهمون