سورية.. أي تعليم وسط الدمار؟
اليزابيث لونغيس
باحثة اجتماع فرنسية، مديرة قسم الدراسات المعاصرة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى
للحرب التي تدمّر سورية منذ نحو ثماني سنوات أثر قلما يتم التعرّض إليه، وهو انهيار النظام التعليمي وانقطاع الأطفال عن التعليم على نطاق واسع.
كان النظام السوري يفتخر بالقضاء على الأمية بشكل واسع، وبتعميم المدارس في جميع مناطق البلاد، وتمكين عدد متزايد من الشباب السوري من الالتحاق بالتعليميْن، الثانوي والعالي. إذا ما احتكمنا إلى أرقام منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فإنّ نسبة الالتحاق بالمدارس في المرحلة الابتدائية بلغت 99.6% في عام 2011 لدى الشريحة العمرية المعنية، وتتعادل فيها تقريباً نسبة الفتيات والفتيان. وفي المرحلة الثانوية، وصلت النسبة إلى حوالى 68% مع تفوّق طفيف لنسبة الفتيان. أما الأمية، وإنْ لم يكن قد قُضي عليها تماماً، فإنّ نسبة معرفة القراءة والكتابة بلغت حوالى 84% عند الراشدين، وحوالى 95% عند الشباب بين 15 و25 سنة. هذه الأرقام التي تبدو مميزة، تحتاج إلى تعديل نسبي من الناحيتين، الكمية والكيفية.
"لقد اكتشفنا أننا لم نكن نعرف مجتمعنا"، تقول سحر، وهي ناشطة من دمشق، عندما قامت هي وصديقاتها بمساعدة العائلات الفارّة من قصف النظام، والقادمة من جميع أرجاء سورية، اكتشفت أمية منتشرة إلى جانب ممارساتٍ ظنت أنّها قد اختفت، على غرار تزويج الفتيات الصغيرات الذي ساهم العنف وغياب الآباء في تفاقمه. اكتشفت أيضاً وجود عدد لا يستهان به من الأطفال غير المسجلين في قيد النفوس، وبالتالي غير المسجلين في المدرسة. وعلاوة على غياب الظروف المادية الملائمة، تميّز التعليم بالطابع السلطوي، وطغى الحفظ عن ظهر قلب، وتم تلقين علاقة الخضوع للسلطة من خلال "التربية الوطنية"، فكانت النتيجة تشكيل انتماء هشٍّ إلى الأمة والوطن، وعلاقة مجرّدة وسلبية بالمعرفة.
منذ بضعة عقود، كان النمو الديموغرافي غير المتحكّم به قد أدى إلى اكتظاظ كبير داخل الصفوف، فازدهرت من جرّاء ذلك الدروس الخصوصية، وتعدّدت مؤسسات التعليم الخاص الربحية التي تقدّم الدعم لتلاميذ المدارس والمعاهد الرسمية، والتي يؤمّنها غالباً مدرسو هذه
المدارس أنفسهم. ولكن اليوم، وفي الوقت الذي يوجد فيه ثلث السكان في المنفى، ومثله من النازحين داخل البلاد، نجد أنّ نصف الأطفال غير ملتحقين بالمدارس. في عام 2015، وفقا لتقرير الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، أقرّت وزارة التربية السورية أنه "منذ بداية النزاع، أكثر من 6500 مدرسة دمّرت أو تضرّرت جزئيَاً أو استخدمت كملجأ للنازحين، أو أصبح من المتعذر الوصول إليها". ووفقاً لتقرير لـ"يونيسف" في عام 2016، بلغ في سورية عدد الأطفال في سن الالتحاق بالمدارس، والذين لا يذهبون إلى المدرسة، 2.1 مليون طفل (5 - 17 سنة). من ناحية أخرى، يوجد 600 ألف طفل سوري لاجئ في المنطقة، محرومون من التعليم".
النزوح مرتين وثلاثاً وأربع
في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، لم تُحيّد المدارس، كما المستشفيات والمباني الحكومية، وكثيراً ما استهدفها قصف الجيش السوري. أما في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام، فبينما خُصّصت بعض مباني المدارس، لفترات متفاوتة المدة، لإيواء النازحين الذين لا يملكون موارد عيش، كانت المدارس الرسميّة المفتوحة تشهد مضاعفة الأعداد المستقبلة؛ هذا من دون التطرّق إلى وضع المنفيين في الدول المجاورة أو في المخيّمات. وبالنسبة إلى الأطفال الذين اضطرت عائلاتهم إلى النزوح مرتين وثلاث مرات وأربع مرات متتالية، وأحياناً أكثر، فكان ينجرّ عن هذا عمليّاً الانقطاع أو التأخّر عدّة سنوات عن الدخول إلى المدرسة. ومع مرور الوقت، يُضاف أيضاً عدد الأطفال الذين لم يكونوا مسجلين، أو لم يعودوا مسجلين، في السجل المدني، إلى أعداد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس والمنحدرين من المناطق التي أهملتها السياسات العامّة.
تتحدث نايلة، وهي مدرّسة من إدلب، التقيناها في دمشق بداية ديسمبر/ كانون الأول 2018، عن قدوم جبهة النصرة في عام 2015: كيف فرض هؤلاء المقاتلون نمط لباسٍ يُفترض أنّه "إسلامي" على النساء، ويطاردون اللواتي تُظهر أثوابهن جزءاً من الكاحل مثلاً؛ وكيف كان "أطفالٌ" يفرّقون بين النساء وأزواجهن في التاكسي الجماعي بذريعة وضع الرجال في الأمام والنساء في الخلف، وكيف كانوا يتّهمون الموظفين، سيما المدرّسين، بأنّهم "شبيحة" للنظام، وأيضا كيف غيّروا مضمون التعليم.
ووفقاً لنايلة، عندما أحكم "التحالف" سيطرته على المدينة، أُرسلت مُرشداتٍ إلى المؤسسات التعليميّة لمراقبة هندام التلميذات. وقد حصلت حادثةٌ كان لها صدى كبير في المدينة: في أثناء أحد الامتحانات، كانت إحدى المرشدات تريد إخراج فتاة رأت أنّ هندامها غير لائق، إلاّ أنّ باقي التلاميذ تضامنوا مع زميلتهم إلى حين وصول والد الفتاة الذي استشاط غضباً، وأجبر المربيّة المزعومة على ترك التلاميذ في حالهم. إلا أنّه، وعلى خلاف جبهة النصرة التي فرضت برامجها التعليميّة الخاصّة، وحذفت دروس الفلسفة، وعوّضتها بدروس الدين، حافظت المدارس الواقعة تحت سيطرة المعارضة على البرامج الرسميّة، مع تشذيبها من مضمونها السياسي، ومن تعظيمها عائلة الأسد. وحتى عام 2018، بقيت مدرسةٌ واحدةٌ كان موظّفوها
يحصلون على رواتبهم من الحكومة السورية، ويطبقون فيها البرامج الرسميّة بحذافيرها.
بحكم الأمر الواقع، في مناطق خرجت عن سيطرة النظام بعد العام 2012، ظل المدرسون الذين بقوا هناك يحصلون على رواتبهم من الدولة فترة طويلة إلى حد ما. وعلى الرغم من الصعوبات المادية، كانت المدارس تعمل، متّبعة البرامج الرسميّة التي حُذفت منها دروس "التربية الوطنيّة" و"الدراسات الاجتماعيّة". كان همّ المدرّسين تمكين التلاميذ من تحضير الامتحانات التي تُمكّنهم من الحصول على شهاداتٍ معترفٍ بها رسميّاً. في المنطقة الشرقيّة من حلب، سيطر مجلس المحافظة على التعليم، وأعاد تأهيل عدّة مدارس، وكان يدفع للمدرّسين رواتبهم. وكان هؤلاء أيضاً يتّبعون البرامج الرسميّة مع حذف دروس التربية السياسيّة، ولكن مع إدخال أنشطةٍ فنيّةٍ جديدةٍ وتدريب المدرّسين على طرق تعليم جديدة.
تشكّل المناطق التي تديرها القوّات الكرديّة (أي قوات سورية الديمقراطية) حالة خاصة: وضعت الإدارة الذاتية تعليما كردياً، مع الحفاظ على التعليم باللغة العربيّة بالنسبة للتلاميذ العرب، ومع إدخال تعليمٍ خاص للتلاميذ من الأقليّة الصغيرة التي تتحدث السريانيّة. وقد خضعت البرامج إلى تغيير كامل يناسب المشروع السياسي للنظام الجديد.
في المناطق التي بقيت أو عادت إلى سلطة النظام، بمن فيهم النازحون، كان يتعين استقبال كل الأطفال قانوناً في المدارس الرسمية، لكن النزوح الداخلي الكبير فاقم اكتظاظ الصفوف، وتدهور ظروف استقبال الأطفال. كثيراً ما نتحدث عن صفوف تضمّ 40 و50 وأحياناً 60 تلميذاً، وذلك على الرغم من مضاعفة أوقات الدوام من خلال حصتين، صباحية ومسائيّة. لكن بدأنا نلاحظ في بعض الأمكنة أن الضغط السكاني قد خفّ بعد بدء عودة النازحين.
في بانياس، تقول هناء، وهي مدرّسة في مدرسة ابتدائيّة، إنّ أعداد التلاميذ في الصفوف ارتفعت من 30 إلى 40 أو 50 تلميذاً في الصف الواحد، بعد وفود النازحين الآتين غالباً من حلب منذ عام 2012. لا شك أنّ مذبحة ربيع 2013 أدّت إلى فرار جزء كبير من سكان الأحياء السنيّة، ولكن مدارسهم لم تنجُ من التدمير. وتستطرد بأنهّ منذ استرجاع حلب، عادت بعض العائلات إلى قراها وأحيائها، ما خفّف الضغط.
حالة طوارئ قصوى
وفقاً لصديقتها ثريّا، يتفاقم الاكتظاظ أحياناً بسبب ضغط الأهل المتوجسين من تقسيم الصفوف على فترتين، والمصرّين على أن يكون لجميع الأطفال الدوام نفسه: في بانياس، صرفت أغلب المدارس النظر عن هذه الطريقة، في حين أنّه في اللاذقيّة، وفقاً لشهادةٍ أخرى، وضعت الإدارة المدرسيّة نظام الحصتين، الصباحية والمسائيّة، ثمّ صرفت عنه النظر، حتى قبل وضعه حيّز التنفيذ. وأمام هذا الوضع، لم ينتظر السوريون تدخّل المنظمات الدوليّة والوكالات أو المنظّمات غير الحكوميّة للتحرّك: "فالحالة حالة طوارئ قصوى"، تقول سهير، "أن يُترك هؤلاء الأطفال في الشارع يعني تركهم فريسةً للانحراف وللعصابات". من أجل هذا، اتّكل الأهالي على الموارد المحليّة، وعلى كرم الناس والمتطوعين والمساعدات الماديّة من الأعيان، ومن مختلف الهياكل القائمة، ولكن أيضاً على مساعداتٍ ماديّةٍ وماليّةٍ من الخارج، أحياناً من لبنان القريب،
ومن منظمات خيريّة مسيحيّة أو جمعيّات مختلفة مرتبطة بمنسّقين محليين غير رسميين. لكن القانون يمنع الحصول على مساعدةٍ خارجيّة من دون ترخيص من الدولة، فمهما كانت هويّاتها وتوجّهاتها السياسيّة والطائفيّة، كان على هذه المبادرات أن تحتال على الشرط الملزم بأن تكون كلّ مؤسسةٍ مدرسيّة تحت إشراف وزارة التربية.
توافق هذه الشهادات من نشطاء من اللاذقيّة أو من دمشق هذه الشهادة لنبيل أنطاكي، وهو طبيب مؤسس لمجموعة المريمي الأزرق التي تكفلت بآلاف النازحين الآتين من أحياء حلب (Nabil Antaki, Georges Sabé, {Les Lettres d’Alep,} L’Harmattan, 2018.): ما نقوم به غير قانوني... لذا نتلاعب بالمصطلحات، لا نتحدث عن مدرسة، وإنما عن "مشروع"". في اللاذقيّة التي كانت فيها الهياكل التربويّة الوحيدة لمرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، هياكل خاصة، أُنشئت روضتان من جمعيات من أجل استقبال أطفال العائلات النازحة تحديداً، لكن مواردها المحدودة لا تسمح لها بتلبية الطلب، هذا ما يأسف له المسؤولون عنها. في الحالة الأولى، اختار النشطاء العمل في إطار رسميّ، ما يخوّلهم أخذ تمويلاتٍ أجنبيّةٍ بصفة قانونيّة ودفع رواتب، لكن هذا يضعهم تحت مراقبةٍ رسميّةٍ ضاغطة. في الحالة الثانية، يضمن لهم رفض الارتباط بمراقبة النظام والممولين الأجانب حريّة عمل أكبر، ولكنّه يحدّ من مواردهم: هم يعتمدون خصوصا على التطوّع، وعلى علاقاتهم بأفرادٍ في المنفى يتمكّنون من تحويل إعانة ماديّة متواضعة بطرق غير رسميّة، لكنهم بهذا يضعون أنفسهم خارج القانون، ويعرفون أنّهم يخاطرون.
في ضاحية دمشق، نجحت أم وسيم التي كانت ناشطةً في الهلال الأحمر السوري، في أن تفتح مركز استقبالٍ للأطفال النازحين بمساعدة مدرسة خاصة، وأجرت ذلك ضمن المدرسة. الأنشطة هنا من نوعين: في المساء، يستقبل الأطفال الذين يحتاجون إلى تدارك الوقت الضائع في مواد أساسيّة (اللغة العربية، اللغة الإنكليزية، الرياضيات)، وخلال النهار، يأتي دور الذين حرموا من المدرسة، لكونهم لا يملكون أوراقاً ثبوتيّة. ويوم السبت تنظّم أنشطة خارج نطاق المنهج، مفتوحة للجميع، تشمل العمل على التعبير الجسدي الهادف إلى التحرّر من المخاوف المتراكمة.
ويهدف استقبال الأطفال في مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي إلى مساعدتهم على تجاوز الصدمة التي تعرّضوا لها، وفي الوقت نفسه، يهدف إلى تسهيل التحاقهم بالتعليم الابتدائي. لكن في اللاذقية كما في بانياس، وكما الحال في أحياء ضواحي دمشق، يشير الناشطون إلى خطر أن يُؤدي اكتظاظ الصفوف الابتدائيّة إلى إفشال هذه الجهود إلى حد ما، بمجرّد أن يلتحق الأطفال بالمدارس الرسميّة، وذلك على الرغم من المساعدة الماديّة المقدّمة من "يونيسف".
تطوير القطاع الخاص
إلى أيّ مدىً يمكن لفشل التعليم الرسمي أن يعزّز قطاعا خاصا طائفيا، أو ربحيا، بلغ ذروته عشيّة انتفاضة عام 2011؟ (من المضحك قراءة أنّ وزارة التربية كانت قلقة من تطوّر الدروس الخاصة "التي تعزّز التوجّه نحو الحفظ عن ظهر قلب" (كذا)، ووفقاً لمعلومةٍ رسميّة، ستحاول الردّ من خلال "وضع دروس عبر الإنترنت وتحسين نظام التقييم"). عندما نعرف أنّ أكثر من 80% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، فهذا معناه أن هذا التدبير لن يشمل سوى أقليّة، ويعمّق الفجوة بين نخبةٍ صغيرة من المحظيين، وبقية الشعب.
في السالميّة، يحدثوننا عن عددٍ متزايد من "المعاهد" التي تقدّم تعليماً تكميلياً مسائياً لمجموعاتٍ تعدّ 20 تلميذاً مع مدرّسين، غالباً ما يكونون آتين من التعليم الرسمي ليكملوا بذلك مدخولهم الشهري أو مرتب التقاعد. هذه حال رفيق، وهو أستاذ علوم متقاعد يدرّس في ثلاثة معاهد خاصّة، ولكنّه يوضح أنّ هذه المعاهد كانت موجودة ما قبل "الأحداث".
وعلى الرغم من أنّ بعض الشهادات تفيد بأنّ ثقل مواد، مثل التربية الوطنية والثقافة القومية، وغيرها من "الدراسات الاجتماعية" كان قد خفّ عددها قبيل 2011، فإنّ النظام يودّ الاحتفاظ بالسيطرة على مضمون التعليم، في وجه أي محاولة لإدخال "فكر هدّام"، دينياً كان أو ثقافياً.
وتساهم منظمة اليونيسف التي تبقى الدولة شريكها الرسمي في "تحديث" البرامج، بغية السماح للتلامذة بتدارك تأخرهم، وبشكل أوسع بغية إعادة التفكير بالمناهج، إلا أنّ البرامج قيد الإعداد قد تثير نقاشاتٍ وخلافاتٍ تؤدي، في النهاية، إلى إفقار أكبر لمضمون التعليم. ولا تقتصر الرقابة على دروس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، وإنّما تشمل الأدب، فأي مؤلِّف تتبنّاه
المعارضة يثير غضب المسؤولين، بينما تعتبر أي صورة في الكتاب لشخصٍ ذي لحية، أو لسيدةٍ محجّبةٍ دعماً للإسلاميين. وبطبيعة الحال، لغة التعليم أيضاً موضوع بحث. من غير الوارد إدخال الكردية أو لغة أي أقليّة أخرى، ولو مادة اختيارية، ولكنّ الوزارة بدأت في إدخال اللغة الروسية إلى المدارس الثانوية.
إلى أي مدى سيتدخل بالأمر مستشارون روس أو إيرانيون؟ في نسختي 23 يناير/ كانون الثاني و6 مارس/ آذار من العام الماضي، يشير تقرير "سيريا ريبورت" إلى توسّع علاقات هذين البلدين ضمن القطاع التعليمي. ويُعتقد أن إيران فتحت عدّة مدارس في دمشق واللاذقية، وفي الشرق السوري.
في هذه الأثناء، وفي اتجاه آخر، فإنّ المنطقة الواقعة تحت إدارة "قوات سورية الديموقراطية" الكردية، في طور وضع نظام تعليمي "وطني"، يعيد إنتاج عيوب النظام البعثي، ومن منظور أيديولوجي. تربية سياسية ثورية، وثقافة حول شخصية عبد الله أوجلان، يثيران سخط شريحةٍ من سكان هذه المناطق، من غير الأكراد تحديداً. في 2400 مدرسة، وحدها الصفوف العليا تتبع المنهاج السوري. أما البقية، فالكتب القديمة ممنوعة.
على غرار إعادة إعمار البلد، يبدو إنشاء نظام تعليمي ناجع مهدداً ببطء التنفيذ، بل قد يكون حلماً مستحيلاً. بعيداً عن المجتمع الـ"أكثر تعافياً وأكثر تجانساً" الذي يدّعي الرئيس السوري أنه يعمل لأجله، فإنّ مدرسة المستقبل في سورية ستؤدي، فترة طويلة، إلى تزويد سوق العمل، وهي سوق تغيب عنها القوانين تماماً، بالعاملين غير المسلحين بالمهارات، إلى جانب أقليةٍ من أصحاب الشهادات، ذوي الكفاءات الضعيفة والملتزمين الصمت، وفي أحسن الأحوال نخبة ضئيلة محكومة بالهجرة، أو بالاتجار الانتهازي في عالم مُعَولم.
على الرغم من استمرار بعض التجارب التي يقوم بها ناشطون وخبراء في التعليم يحملون رؤية جديدة للمدرسة التي تُعدّ المواطنين المنفتحين، إلا أن ما نخشاه هو تدمير جهودهم على أيدي نظامٍ همّه الوحيد البقاء في الحكم بأي ثمن.
"لقد اكتشفنا أننا لم نكن نعرف مجتمعنا"، تقول سحر، وهي ناشطة من دمشق، عندما قامت هي وصديقاتها بمساعدة العائلات الفارّة من قصف النظام، والقادمة من جميع أرجاء سورية، اكتشفت أمية منتشرة إلى جانب ممارساتٍ ظنت أنّها قد اختفت، على غرار تزويج الفتيات الصغيرات الذي ساهم العنف وغياب الآباء في تفاقمه. اكتشفت أيضاً وجود عدد لا يستهان به من الأطفال غير المسجلين في قيد النفوس، وبالتالي غير المسجلين في المدرسة. وعلاوة على غياب الظروف المادية الملائمة، تميّز التعليم بالطابع السلطوي، وطغى الحفظ عن ظهر قلب، وتم تلقين علاقة الخضوع للسلطة من خلال "التربية الوطنية"، فكانت النتيجة تشكيل انتماء هشٍّ إلى الأمة والوطن، وعلاقة مجرّدة وسلبية بالمعرفة.
منذ بضعة عقود، كان النمو الديموغرافي غير المتحكّم به قد أدى إلى اكتظاظ كبير داخل الصفوف، فازدهرت من جرّاء ذلك الدروس الخصوصية، وتعدّدت مؤسسات التعليم الخاص الربحية التي تقدّم الدعم لتلاميذ المدارس والمعاهد الرسمية، والتي يؤمّنها غالباً مدرسو هذه
النزوح مرتين وثلاثاً وأربع
في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، لم تُحيّد المدارس، كما المستشفيات والمباني الحكومية، وكثيراً ما استهدفها قصف الجيش السوري. أما في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام، فبينما خُصّصت بعض مباني المدارس، لفترات متفاوتة المدة، لإيواء النازحين الذين لا يملكون موارد عيش، كانت المدارس الرسميّة المفتوحة تشهد مضاعفة الأعداد المستقبلة؛ هذا من دون التطرّق إلى وضع المنفيين في الدول المجاورة أو في المخيّمات. وبالنسبة إلى الأطفال الذين اضطرت عائلاتهم إلى النزوح مرتين وثلاث مرات وأربع مرات متتالية، وأحياناً أكثر، فكان ينجرّ عن هذا عمليّاً الانقطاع أو التأخّر عدّة سنوات عن الدخول إلى المدرسة. ومع مرور الوقت، يُضاف أيضاً عدد الأطفال الذين لم يكونوا مسجلين، أو لم يعودوا مسجلين، في السجل المدني، إلى أعداد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس والمنحدرين من المناطق التي أهملتها السياسات العامّة.
تتحدث نايلة، وهي مدرّسة من إدلب، التقيناها في دمشق بداية ديسمبر/ كانون الأول 2018، عن قدوم جبهة النصرة في عام 2015: كيف فرض هؤلاء المقاتلون نمط لباسٍ يُفترض أنّه "إسلامي" على النساء، ويطاردون اللواتي تُظهر أثوابهن جزءاً من الكاحل مثلاً؛ وكيف كان "أطفالٌ" يفرّقون بين النساء وأزواجهن في التاكسي الجماعي بذريعة وضع الرجال في الأمام والنساء في الخلف، وكيف كانوا يتّهمون الموظفين، سيما المدرّسين، بأنّهم "شبيحة" للنظام، وأيضا كيف غيّروا مضمون التعليم.
ووفقاً لنايلة، عندما أحكم "التحالف" سيطرته على المدينة، أُرسلت مُرشداتٍ إلى المؤسسات التعليميّة لمراقبة هندام التلميذات. وقد حصلت حادثةٌ كان لها صدى كبير في المدينة: في أثناء أحد الامتحانات، كانت إحدى المرشدات تريد إخراج فتاة رأت أنّ هندامها غير لائق، إلاّ أنّ باقي التلاميذ تضامنوا مع زميلتهم إلى حين وصول والد الفتاة الذي استشاط غضباً، وأجبر المربيّة المزعومة على ترك التلاميذ في حالهم. إلا أنّه، وعلى خلاف جبهة النصرة التي فرضت برامجها التعليميّة الخاصّة، وحذفت دروس الفلسفة، وعوّضتها بدروس الدين، حافظت المدارس الواقعة تحت سيطرة المعارضة على البرامج الرسميّة، مع تشذيبها من مضمونها السياسي، ومن تعظيمها عائلة الأسد. وحتى عام 2018، بقيت مدرسةٌ واحدةٌ كان موظّفوها
بحكم الأمر الواقع، في مناطق خرجت عن سيطرة النظام بعد العام 2012، ظل المدرسون الذين بقوا هناك يحصلون على رواتبهم من الدولة فترة طويلة إلى حد ما. وعلى الرغم من الصعوبات المادية، كانت المدارس تعمل، متّبعة البرامج الرسميّة التي حُذفت منها دروس "التربية الوطنيّة" و"الدراسات الاجتماعيّة". كان همّ المدرّسين تمكين التلاميذ من تحضير الامتحانات التي تُمكّنهم من الحصول على شهاداتٍ معترفٍ بها رسميّاً. في المنطقة الشرقيّة من حلب، سيطر مجلس المحافظة على التعليم، وأعاد تأهيل عدّة مدارس، وكان يدفع للمدرّسين رواتبهم. وكان هؤلاء أيضاً يتّبعون البرامج الرسميّة مع حذف دروس التربية السياسيّة، ولكن مع إدخال أنشطةٍ فنيّةٍ جديدةٍ وتدريب المدرّسين على طرق تعليم جديدة.
تشكّل المناطق التي تديرها القوّات الكرديّة (أي قوات سورية الديمقراطية) حالة خاصة: وضعت الإدارة الذاتية تعليما كردياً، مع الحفاظ على التعليم باللغة العربيّة بالنسبة للتلاميذ العرب، ومع إدخال تعليمٍ خاص للتلاميذ من الأقليّة الصغيرة التي تتحدث السريانيّة. وقد خضعت البرامج إلى تغيير كامل يناسب المشروع السياسي للنظام الجديد.
في المناطق التي بقيت أو عادت إلى سلطة النظام، بمن فيهم النازحون، كان يتعين استقبال كل الأطفال قانوناً في المدارس الرسمية، لكن النزوح الداخلي الكبير فاقم اكتظاظ الصفوف، وتدهور ظروف استقبال الأطفال. كثيراً ما نتحدث عن صفوف تضمّ 40 و50 وأحياناً 60 تلميذاً، وذلك على الرغم من مضاعفة أوقات الدوام من خلال حصتين، صباحية ومسائيّة. لكن بدأنا نلاحظ في بعض الأمكنة أن الضغط السكاني قد خفّ بعد بدء عودة النازحين.
في بانياس، تقول هناء، وهي مدرّسة في مدرسة ابتدائيّة، إنّ أعداد التلاميذ في الصفوف ارتفعت من 30 إلى 40 أو 50 تلميذاً في الصف الواحد، بعد وفود النازحين الآتين غالباً من حلب منذ عام 2012. لا شك أنّ مذبحة ربيع 2013 أدّت إلى فرار جزء كبير من سكان الأحياء السنيّة، ولكن مدارسهم لم تنجُ من التدمير. وتستطرد بأنهّ منذ استرجاع حلب، عادت بعض العائلات إلى قراها وأحيائها، ما خفّف الضغط.
حالة طوارئ قصوى
وفقاً لصديقتها ثريّا، يتفاقم الاكتظاظ أحياناً بسبب ضغط الأهل المتوجسين من تقسيم الصفوف على فترتين، والمصرّين على أن يكون لجميع الأطفال الدوام نفسه: في بانياس، صرفت أغلب المدارس النظر عن هذه الطريقة، في حين أنّه في اللاذقيّة، وفقاً لشهادةٍ أخرى، وضعت الإدارة المدرسيّة نظام الحصتين، الصباحية والمسائيّة، ثمّ صرفت عنه النظر، حتى قبل وضعه حيّز التنفيذ. وأمام هذا الوضع، لم ينتظر السوريون تدخّل المنظمات الدوليّة والوكالات أو المنظّمات غير الحكوميّة للتحرّك: "فالحالة حالة طوارئ قصوى"، تقول سهير، "أن يُترك هؤلاء الأطفال في الشارع يعني تركهم فريسةً للانحراف وللعصابات". من أجل هذا، اتّكل الأهالي على الموارد المحليّة، وعلى كرم الناس والمتطوعين والمساعدات الماديّة من الأعيان، ومن مختلف الهياكل القائمة، ولكن أيضاً على مساعداتٍ ماديّةٍ وماليّةٍ من الخارج، أحياناً من لبنان القريب،
توافق هذه الشهادات من نشطاء من اللاذقيّة أو من دمشق هذه الشهادة لنبيل أنطاكي، وهو طبيب مؤسس لمجموعة المريمي الأزرق التي تكفلت بآلاف النازحين الآتين من أحياء حلب (Nabil Antaki, Georges Sabé, {Les Lettres d’Alep,} L’Harmattan, 2018.): ما نقوم به غير قانوني... لذا نتلاعب بالمصطلحات، لا نتحدث عن مدرسة، وإنما عن "مشروع"". في اللاذقيّة التي كانت فيها الهياكل التربويّة الوحيدة لمرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، هياكل خاصة، أُنشئت روضتان من جمعيات من أجل استقبال أطفال العائلات النازحة تحديداً، لكن مواردها المحدودة لا تسمح لها بتلبية الطلب، هذا ما يأسف له المسؤولون عنها. في الحالة الأولى، اختار النشطاء العمل في إطار رسميّ، ما يخوّلهم أخذ تمويلاتٍ أجنبيّةٍ بصفة قانونيّة ودفع رواتب، لكن هذا يضعهم تحت مراقبةٍ رسميّةٍ ضاغطة. في الحالة الثانية، يضمن لهم رفض الارتباط بمراقبة النظام والممولين الأجانب حريّة عمل أكبر، ولكنّه يحدّ من مواردهم: هم يعتمدون خصوصا على التطوّع، وعلى علاقاتهم بأفرادٍ في المنفى يتمكّنون من تحويل إعانة ماديّة متواضعة بطرق غير رسميّة، لكنهم بهذا يضعون أنفسهم خارج القانون، ويعرفون أنّهم يخاطرون.
في ضاحية دمشق، نجحت أم وسيم التي كانت ناشطةً في الهلال الأحمر السوري، في أن تفتح مركز استقبالٍ للأطفال النازحين بمساعدة مدرسة خاصة، وأجرت ذلك ضمن المدرسة. الأنشطة هنا من نوعين: في المساء، يستقبل الأطفال الذين يحتاجون إلى تدارك الوقت الضائع في مواد أساسيّة (اللغة العربية، اللغة الإنكليزية، الرياضيات)، وخلال النهار، يأتي دور الذين حرموا من المدرسة، لكونهم لا يملكون أوراقاً ثبوتيّة. ويوم السبت تنظّم أنشطة خارج نطاق المنهج، مفتوحة للجميع، تشمل العمل على التعبير الجسدي الهادف إلى التحرّر من المخاوف المتراكمة.
ويهدف استقبال الأطفال في مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي إلى مساعدتهم على تجاوز الصدمة التي تعرّضوا لها، وفي الوقت نفسه، يهدف إلى تسهيل التحاقهم بالتعليم الابتدائي. لكن في اللاذقية كما في بانياس، وكما الحال في أحياء ضواحي دمشق، يشير الناشطون إلى خطر أن يُؤدي اكتظاظ الصفوف الابتدائيّة إلى إفشال هذه الجهود إلى حد ما، بمجرّد أن يلتحق الأطفال بالمدارس الرسميّة، وذلك على الرغم من المساعدة الماديّة المقدّمة من "يونيسف".
تطوير القطاع الخاص
إلى أيّ مدىً يمكن لفشل التعليم الرسمي أن يعزّز قطاعا خاصا طائفيا، أو ربحيا، بلغ ذروته عشيّة انتفاضة عام 2011؟ (من المضحك قراءة أنّ وزارة التربية كانت قلقة من تطوّر الدروس الخاصة "التي تعزّز التوجّه نحو الحفظ عن ظهر قلب" (كذا)، ووفقاً لمعلومةٍ رسميّة، ستحاول الردّ من خلال "وضع دروس عبر الإنترنت وتحسين نظام التقييم"). عندما نعرف أنّ أكثر من 80% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، فهذا معناه أن هذا التدبير لن يشمل سوى أقليّة، ويعمّق الفجوة بين نخبةٍ صغيرة من المحظيين، وبقية الشعب.
في السالميّة، يحدثوننا عن عددٍ متزايد من "المعاهد" التي تقدّم تعليماً تكميلياً مسائياً لمجموعاتٍ تعدّ 20 تلميذاً مع مدرّسين، غالباً ما يكونون آتين من التعليم الرسمي ليكملوا بذلك مدخولهم الشهري أو مرتب التقاعد. هذه حال رفيق، وهو أستاذ علوم متقاعد يدرّس في ثلاثة معاهد خاصّة، ولكنّه يوضح أنّ هذه المعاهد كانت موجودة ما قبل "الأحداث".
وعلى الرغم من أنّ بعض الشهادات تفيد بأنّ ثقل مواد، مثل التربية الوطنية والثقافة القومية، وغيرها من "الدراسات الاجتماعية" كان قد خفّ عددها قبيل 2011، فإنّ النظام يودّ الاحتفاظ بالسيطرة على مضمون التعليم، في وجه أي محاولة لإدخال "فكر هدّام"، دينياً كان أو ثقافياً.
وتساهم منظمة اليونيسف التي تبقى الدولة شريكها الرسمي في "تحديث" البرامج، بغية السماح للتلامذة بتدارك تأخرهم، وبشكل أوسع بغية إعادة التفكير بالمناهج، إلا أنّ البرامج قيد الإعداد قد تثير نقاشاتٍ وخلافاتٍ تؤدي، في النهاية، إلى إفقار أكبر لمضمون التعليم. ولا تقتصر الرقابة على دروس التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، وإنّما تشمل الأدب، فأي مؤلِّف تتبنّاه
إلى أي مدى سيتدخل بالأمر مستشارون روس أو إيرانيون؟ في نسختي 23 يناير/ كانون الثاني و6 مارس/ آذار من العام الماضي، يشير تقرير "سيريا ريبورت" إلى توسّع علاقات هذين البلدين ضمن القطاع التعليمي. ويُعتقد أن إيران فتحت عدّة مدارس في دمشق واللاذقية، وفي الشرق السوري.
في هذه الأثناء، وفي اتجاه آخر، فإنّ المنطقة الواقعة تحت إدارة "قوات سورية الديموقراطية" الكردية، في طور وضع نظام تعليمي "وطني"، يعيد إنتاج عيوب النظام البعثي، ومن منظور أيديولوجي. تربية سياسية ثورية، وثقافة حول شخصية عبد الله أوجلان، يثيران سخط شريحةٍ من سكان هذه المناطق، من غير الأكراد تحديداً. في 2400 مدرسة، وحدها الصفوف العليا تتبع المنهاج السوري. أما البقية، فالكتب القديمة ممنوعة.
على غرار إعادة إعمار البلد، يبدو إنشاء نظام تعليمي ناجع مهدداً ببطء التنفيذ، بل قد يكون حلماً مستحيلاً. بعيداً عن المجتمع الـ"أكثر تعافياً وأكثر تجانساً" الذي يدّعي الرئيس السوري أنه يعمل لأجله، فإنّ مدرسة المستقبل في سورية ستؤدي، فترة طويلة، إلى تزويد سوق العمل، وهي سوق تغيب عنها القوانين تماماً، بالعاملين غير المسلحين بالمهارات، إلى جانب أقليةٍ من أصحاب الشهادات، ذوي الكفاءات الضعيفة والملتزمين الصمت، وفي أحسن الأحوال نخبة ضئيلة محكومة بالهجرة، أو بالاتجار الانتهازي في عالم مُعَولم.
على الرغم من استمرار بعض التجارب التي يقوم بها ناشطون وخبراء في التعليم يحملون رؤية جديدة للمدرسة التي تُعدّ المواطنين المنفتحين، إلا أن ما نخشاه هو تدمير جهودهم على أيدي نظامٍ همّه الوحيد البقاء في الحكم بأي ثمن.
دلالات
اليزابيث لونغيس
باحثة اجتماع فرنسية، مديرة قسم الدراسات المعاصرة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى
اليزابيث لونغيس