سوبرانو يمرّن صوته على القسوة

29 نوفمبر 2014
+ الخط -

لعله الأكثر جدلاً من بين الشعراء العرب الذين مروا في تاريخنا الحديث، لم يكن مروره عابراً أو غير مرئي، بل كان حضوره  ضاجاً وصاهلاً مثل قصيدته التي غرفت من الينابيع (بغض النظر عن تقلّباته وخطاياه السياسية).

ولذلك فقد رفع بحس موسيقي عالي، الدفقة الشعرية إلى ذراها، سواء في غنائياته المسرحية، أو في نصوصه الوطنية، وهو موضوعه الأثير الذي لا يتفوق عليه أحد فيه، أو في أرضه المحتكرة، المسورة، حيث المرأة مجاله الواسع، الذي عرف بدربة عالية، كيف يستثمر فيه، ويجني الثمار، في أجمل وأرقّ ما كتب في شعر الحب، منذ مدونة الشعر الجاهلي إلى الآن.

كتب للمرأة، وأسبغ عليها روح الجمال، وولد من بين ألحاظها وجدائلها، جغرافية خاصة لشعره، فهناك الصنوبر والقمر والليل وداليات العنب، وهناك في الخلفية المشهدية، أيضاً، أجراس الكنائس.

ليس يسيراً على الشاعر أن يحكم الطوق على عالمه الشعري وأن يبنيه مفردة مفردة، وجملة جملة، لكن سعيد عقل بعبقربته وروحه الوثابة، استطاع أن يجعل عالمه الشعري متحققاً، قائم الذات، تعرفه من خلال معجمه الشعري ودفق إيقاعه، وتدفقه، وليونة مفردته، التي يكون قد عرضها للصقل ولعمل جبار في اختبار مادتها النفيسة مثل كتلة النحات. لذلك لما جاءت فيروز وغنته، اهتزت ورفرفت، واهتز معها الإيقاع ورقص، سواء في قصيده الفصيح أو العامي.

ليس سعيد عقل إلا سليل العربية الجزلة، وقوة عبارته قادمة من زمن الشعر الصافي ومن مصادره المعرفية، وانفتاحه على الثقافات. وهو من حيث هذا، يبدو آخر شاعر عربي يتملك أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكما تفوق في الأوزان الثقيلة والمجرسة، مثل البحر الطويل، فقد خلق من بحر الرجز "حمار الشعراء" إمكانيات تعبيرية وجمالية مستحيلة، جعلت منه بحراً شعرياً رجراجاً، ودينامياً، له القدرة على التطريب في الدرجات القصوى.

وكما أن المرأة كانت موضوعه، وشعر الحب مجاله الحيوي، فإنّ حاسته الشعرية كانت أرهف من وتر، ومن المؤكد أنه كان يجيل كلماته في دواخله، وبمررها على أوتار قلبه طويلاً، قبل أن يجعلها تخرج إلى حيز الوجود. كان يعرف جيداً القاعدة التي تقول "الأذن تعشق قبل العين أحيانا" لذلك كان يمعن في نمذجتها إلى أبعد حد، مثل سوبرانو يمرّن حبال صوته على القسوة، تلك القسوة التي تنتج ذلك الصوت الأوبرالي العالي.

وهذا هو شعر سعيد عقل، في كل تلاوينه، وفي خماسياته التي تكشف عن فهم خاص للشعر، يتجاوز الرباعيات، فالقصيدة انسياب، لا تقف إلا على مفرد، وهي تحتاج إلى الدرجة القصوى من الإشباع في المعنى وفي الدلالة، وايضاً في الامتداد الصوتي.

إنه الشاعر الذي يستطيع أن يقول بمنتهى الانسيابية والروح الخفيفة "مُفردٌ لحظُكِ إن سَرّحتِهِ/ طار بالأرض جناحٌ من زَهَر/ وإذا هُدبُكِ جاراه المدى/ راح كونٌ تِلْوَ كونٍ يُبتكَر". بهذه البساطة المتمنعة كان يكتب عقل  دون أن يخاف على معناه من التشابه، وفي باله، كل منجز قصيدة الغزل من عمر بن أبي ربيعة إلى الآن.

لم يكن سعيد عقل مجرد شاعر أهلك الزمن وأهلكه، ولكنه جعل مروره الشعري في هذا العالم علامة فارقة، فكبرباء الشاعر كان مسكنه، وبيته كان كوناً بكامله، دون أن ينسى الترجي على غرار شاعر من العصر العباسي حين يقول "مرّ بي يا واعداً وعداً مثلما النسمة من بردى/ تحمل العمر تبدده، آه ما أطيبه بددا".


* شاعر مغربي من أسرة "العربي الجديد"

المساهمون