سميح شوعي

09 مايو 2018

الطفل اليمني سميح شوعي بجانب جثمان والده (يوتيوب)

+ الخط -
قليلون الذين سمعوا هذا الاسم، وشاهدوا صاحبه في مقطع فيديو يؤرخ للجانب المأساوي من حرب اليمن العبثية. سميح شوعي ليس آخر ضحايا حرب اليمن التي فرضها جيرانه الأقوياء عليه، لكنه يجسد، بمأساته، الجانب الآخر المنسي من معاناة ضحايا هذه الحرب من الأطفال، الفئة الهشّة ضحية كل الحروب عبر التاريخ.
سميح شوعي طفل يمني كان منسيا، لكن من شاهده وهو ينام في حضن جثمان والده المطمور تحت خراب بيتهم، ومن سمع صراخه وبكاءه وهو يتشبث بما تبقى من ثيابٍ عالقةٍ بجثة والده الهامدة، لن ينسى صورته، وهو يتكوّم مطمئنا يلتحف الظلام، وهو يعانق جثمان والده، ولن يستطيع أن يكفّ عن سماع صدى بكائه الطفولي بحرقة، وهو يشد، بكلتا يديه الصغيرتين، قميص والده الممزّق، غير آبه بهيبة الموت الرهيبة، وسكون الخراب المخيف، وهو يستسلم لنوم لن يستطيع استيعابه سوى عقل طفل بريء مثله، ما زال لا يدرك معنى الموت.
في مقطع الفيديو الذي لم يتم تداوله على نطاق واسع، كما حدث مع مأساة أطفال مشابهة تتكرّر في كل الحروب التي يشنها الكبار وتقتل الصغار، يظهر سميح شوعي، ذو الثماني سنوات، وهو يبكي ويصرخ في هستيريا، محاولا الإفلات بجسده النحيف من محاولات مسعفين، أرادوا إبعاده عن جثمان والده المطمور تحت الخراب الذي خلفه القصف العشوائي لقريتهم. وقع الحادث قبل أسبوعين في قرية الراقة في بني قيس التابعة لمحافظة حجّة (شمال)، عندما قصفت طائرة للتحالف بيتا كان يقام فيه عرس لأحد أبناء القرية، وجاء ليكشف عن الجانب المأساوي غير المرئي من حرب اليمن المنسية.
وأمام إصرار الطفل على البقاء جنب جثمان والده، تركه المسعفون لينام طوال الليل متشبثاً 
بالجثمان المضرج بالدم والغبار تحت ظلام الخراب الذي خلفه قصف "التحالف السعودي والإماراتي" لقريتهم الصغيرة، وخلف نحو 33 قتيلاً و63 جريحاً.
مشهد مأساوي، بل سوريالي، جسده سميح شوعي ببراءة وتلقائية وعفوية وصدق، يجعل الدمع يتجمد في العينين، والقلب يتفطر ألما من شدة الإحساس بالذنب، والعجز عن عدم القدرة على فعل أي شيء يدين هذه الحرب المأساوية.
لم يكن والد سميح شوعي مقاتلا مع مليشيات الحوثي، كما لم يكن جنديا في صفوف أحد المعسكرين المتطاحنين في اليمن. والد سميح شوعي، وثلاثة من إخوته وعدد من أقاربه ممن طمرهم قصف التحالف تحت خراب بيوتهم المتواضعة، كانوا أعضاء في فرقةٍ للرقص الشعبي، وكانوا يحيون حفلا لعرسٍ أقامه أحد سكان القرية متحدّين الموت والدمار بالفرح والرقص، قبل أن يسقط على الجميع صاروخ مجنون أطلقته إحدى طائرات التحالف التي تجوب سماء اليمن مثل غربان موت مشؤوم، فأردى الجميع قتلى ونسيا منسيا تحت ركام من الدمار والغبار.
مأساة سميح شوعي أنه كان الناجي الوحيد والشاهد الحي على الجريمة المروّعة، وعلى عبثية حربٍ ضحيتها الأول والأخير شعب اليمن الفقير والمهمش والمنسي، تنهشه الأمراض ويقتله الجوع وتدفنه الصواريخ الذكية والخاطئة والشرعية.. تحت ركامٍ من الأنقاض والخراب الذي ألحقته بمدن اليمن السعيد وقراه.
أصبحت مأساة سميح شوعي مزدوجة، فهو لم يفقد والده وإخوته وأقاربه، ولم تسرق منه فرحة العرس الذي كان يحضره، ولم يمنع من عناق جثمان والده الهامد، وإنما حرم حتى من حقه في أن تكون صورته، متكوما بجسده النحيف يضم جثمان والده الميت بيديه الصغيرتين، جزءا من مأساة حرب اليمن العبثية.
مأساة سميح شوعي نفسها مأساة الطفلين السوريين إيلان وعمران، ومثلهما أطفال سوريون كثيرون منسيون لم تُعرف أسماؤهم، ولم نر وجوههم الصغيرة، بعد أن ابتلعها البحر، أو طمرتها الأنقاض، أو خنقتها الغازات السامة، أو حرقتها البراميل المتفجرة، أو نسفتها الصواريخ المتساقطة من السماء.. وقبلهما صور مئات الأطفال الفلسطينيين الذين لا نذكرهم إلا وحضرت صورة محمد الدرة، وهو يحتمي بجسد والده النحيف، بينما رصاص العدو الإسرائيلي يخترق الجسدين المتلاحمين، حتى اختلط الدم بالدم، وصعدت الروح البريئة إلى باريها.
لم تصل صورة سميح شوعي إلى كل البيوت، على غير صور إيلان وعمران والدرة.. 
وصراخ بكائه لم يصم كل الآذان، حتى يدرك العالم مأساة شعبه الفقير الذي فُرضت عليه حربٌ تحول هو إلى حطبها. إنه الجانب الآخر المخزي من هذه الحرب التي يحاول من يقودونها أن يحجبوا صورها الفظيعة والحزينة والملعونة عن أعيننا، ويحاولون أن يصموا آذاننا عن سماع صراخ ضحاياها وأنينهم واستغاثتهم، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة تحت الأنقاض، أو من فرط الأمراض أو شدة الجوع..
التقط مصور أميركي، في العام 1972، صورة طفلة فيتنامية، في سن التاسعة، تجري عارية ونصف جسهما مصاب بحروق بالغة، بسبب قصف عشوائي لطائرات أميركية بقنابل النابالم المحركة دوليا، فما لبثت الصورة أن تحولت رمزا لتلك الحرب الإجرامية، وتركت في العالم صدىً أدّى إلى وقفها. أما صاحبتها، فان ثي كيم فوك، فتحولت إلى أيقونة حرب فيتنام، وما تزال تناضل من أجل السلام في العالم، وضد استهداف الأطفال في الحروب.
كانت فان ثي كيم فوك في عمر سميح شوعي.. وفي عمر إيلان وعمران ومحمد الدرة.. لكن هؤلاء إما ماتوا أو يعيشون بحروقهم وآلامهم وأحزانهم، فكم هي رخيصة الطفولة العربية مثل الدم والعرض والضمير العربي. ما أتعسنا، فنحن لا نساوي حتى التراب الذي نطمر تحته.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).